أدبية، روائية و شعر, الادبية

رواية غربة بقلم هـانيــة سليمان خانكان

رواية غربة بقلم هـانيــة سليمان خانكان

غربة


اعتدتُّ مذ اغتربتُ على هاتف أمّي الصباحيّ شبه اليومي والذي تنهيه دوماً بعدد الفتيات اللواتي خبّأتهنّ لي، لحين إجازتي السنوية الصيفيّة، لأختار منهنّ عروساً لي.

تعدو أيام الإجازة وكأنني في سباقٍ محمومٍ مع الزمن، زياراتٌ مكثّفةٌ ومواعيدُ كأنها مهامٌ رسميّةٌ تقطع الأنفاس، تعقبها جلساتُ مفاضلةٍ هي الأصعب على الإطلاق؛ أيُّها أرغب!
تبادر أمي: ما رأيكَ بنهى؟

تنتهي الإجازة وجارنا قد زوّج ابنه الأصغر مني وزيارةٌ خاطفةٌ سرقتُها، لأبارك لصديقي مولوده الأول.

من نهى؟

ذات الوجه المستدير والعينين الواسعتين!
وحين أعجزُ عن تذكُّرها، تنتقل بي إلى ليلى ذات الفم الصغير كحبّة الفستق!
تستديرُ عيناي وأنا أحاول جاهداً، الرّبط بين من تصِفُهنّ أمّي وبين من رأيتهنّ.
فتنتقل بي إلى ناهد، ذات الحاجبين الأسودَين كَسيفَين!
تدهشني براعةُ أمي في تمييزهنّ عن بعضهنّ؛ فأصلُ معها لاتفاقٍ أن نجعلهنّ أرقاماً؛ الأولى ، الثانية وهكذا…
أو ربطهنّ بأسماء أحيائهنّ.
كلهنّ متشابهاتٌ في عيني كتشابه زهرات المروج وأنا كالخارج من محلّ عطوراتٍ، تاهتْ به الروائح، إلا أن لا رائحة علقَتْ في ذاكرته واستوطنَتها.

أعودُ لغربتي أحملُ خذلاناً ممزوجاً بشيءٍ من الراحة الغامضة، ففي حين أنني لم أخطب أيّ واحدةٍ ولكن لازال الأمل معقوداً أن أجدها، تلك الفريدةُ التي لا أرجو غيرها، فلستُ من النوع الذي ترضيه أيّ فتاةٍ، وقد عاهدتُّ نفسي مراراً ألا أسكن إلا لامرأةٍ يوافقُ إيقاعُ قلبها، نبضَ قلبي.

في كلّ إجازةٍ أحضرُ حفل زفاف أخٍ من إخوتي الأصغر مني وأعودُ وحيداً محتفظاً بنظرات عتاب أمي وأقاربي.
إلى أن وقفتُ يوماً أمام المرآة أراقب بدء تمرّد شعراتٍ بيضاء في رأسي وذقني؛ اتصلتُ بأمي أخبرها أن تختار لي فتاةً تعجبها ولن أمانع.
قامعاً أحلامي، مضيتُ ورضيتُ منطق العُرف ورسميّاته واختياراته وقبلتُ.

مرَّت ستةُ أعوامٍ رتيبةٍ، يسلّم كل يوم نفسه لآخر ويسلّمني للسنين إلى أن التقيتُها، سامحتُ العمر الضائع ونسيتُ خذلان الأيام.
ووجدتُّني أستعير كلمات النبي سليمان عليه السلام:
“امرأةٌ فاضلةٌ من يدلّني عليها، إنها أثمنُ من كلّ مافي الأرض من ماسٍ ولآلئ، فتّشتُ في الألف امرأةٍ فلم أجدها”.

امرأةٌ خبّأها القدر لي ثم عثَّرني بها وعثَّرها بي.
للصباحات طعمٌ آخر في انتظارها، نعم هناك شيءٌ يستحقُّ الاستيقاظ.

رنّ هاتفي فسارعتُ للردّ وأنا أدندن، فإذ بها أمي، بدا صوتها بعيداً وغائباً وهي تسألني: متى موعد ولادة زوجتك ؟
أعادتني برنّةِ هاتفٍ إلى عائلتي، لأجدُني أردّد وراء النبي سليمان أمنيته المستحيلة بتصرُّفٍ منّي: ” امرأةٌ أثمنُ من كل مافي الأرض من ماسٍ ولآلئ؛ فتّشتُ في الألف امرأةٍ فوجدتُّها ولكن، متأخراً جداً فمضيت”