الاقتصاد, سياسية و اقتصادية, مقالات

الزجاج المُعشق: إبداع هندسي كيميائي

بقلم الباحثة جومانة صالح، دمشق. سوريا

يشير مصطلح المُعشق إلى تشابك شيئين ببعضهما البعض، وفي اللغة العربية يُطلق على التشابك في مجال الصناعات لقب (العاشق والمعشوق)، فما هو العاشق والمعشوق في هذه الحرفة القديمة.
الزجاج المُعشق: حرفة قديمة، وفن إبداعي توارثته الأجيال جيلاً بعد جيل، واعتمد على الخبرة في علم الكيمياء والهندسة، والمواد المتوافرة في البيئة من خلال تواجد السيليكيا وهي المادة الأساسية في صناعته، ويُضاف الرصاص والصودا لخفض درجة الإنصهار، ويستخدم الجير أيضاً لإعادة بناء الشبكة الضعيفة وجعل الزجاج أكثر تماسكاً واستقراراً، و هو عبارة عن قطع من الزجاج الملون تُعشق بمادة الجص أو ما يُسمى “الجبس” قبل أن يصبح صلباً لتُؤلف تصميماً زخرفياً بديعاً، إذاً فالعاشق هو الزجاج، والمعشوق هو الجص.

تداخل الكيمياء والهندسة في فن الزجاج المُعشق:
من الجدير بالذكر أن أجدادنا اعتمدوا على علم الكيمياء أو ما يسمى الخيمياء في صناعة الزجاج المعشق؛ حيث يتم تلوين ألواح الزجاج عن طريق إضافة الأملاح المعدنية، ومساحيق الأكاسيد المعدنية لتعطي ألواناً متعددة مثل: أكسيد النحاس الذي ينتج اللون الأخضر او الأخضر المزرق، والنحاس الذي ينتج اللون الأحمر، والمنغنيز الذي ينتج اللون الأرجواني، والكوبالت الذي ينتج اللون الأزرق الداكن، أما الذهب فينتج اللون الأحمر النبيذي والبنفسجي.
وهو فن يتطلب مهارة هندسية لتصور أو تخيل التصميم المناسب وتجميع القطع الزجاجية، وصقلها بحرفية عالية دون إتلافها.

تاريخ الزجاج المُعشق:
يعود تاريخ فن الزجاج المعشق في المنطقة العربية إلى القرن الثامن الميلادي في العصر الأموي، لكنه تطور في القرن العاشر الميلادي تطوراً ملحوظاً خاصةً في العصر المملوكي، وعند دخول العثمانيون إلى المنطقة العربية أصبح الزجاج المعشق الفن السائد في نمط العمارة الإسلامية، و هو فن عربي إسلامي حيث كتب الخيميائي (جابر بن حيان) في كتابه “الدرة المكنونة” ستٌ وأربعين وصفة أصلية لإنتاج الزجاج الملون، و وصف طريقة صناعته وقطعه إلى أحجار كريمة و اصطناعية، ولقد برع الفنانون المسلمون في استعماله في العمارة والديكور لا سيما في منطقة بلاد الشام والمغرب العربي حتى ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتراث الإسلامي ودخل إلى إسبانيا عن طريق المغاربة، ومنه انتقل إلى البلاد الأجنبية مع الفتوحات الإسلامية ويظهر جلياً في آثار الأندلس التي تفوح برائحة الأصالة العربية وعبق التاريخ من خلال قصر الحمراء في غرناطة ومسجد قرطبة، و استخدم في الأجزاء العليا من المساجد، وتبدو النماذج الأولى لهذا الفن العريق في قبة الصخرة في فلسطين و التي بناها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وفي الجامع الأموي في دمشق الذي بناه ابنه الوليد بن عبد الملك، و جامع عمرو بن العاص في مصر، وقصر الحير الغربي في بادية الشام، و جميعها آثار تعود للعصر الأموي.


ثم انتقل إلى أوروبا خلال العصور الوسطى حيث اهتمت الإمبراطورية البيزنطية التي حكمت شرق أوروبا من عاصمتها القسطنطينية لتزيين نوافذ الكنائس الأسقفية والمباني الدينية، وانتقل إلى غرب أوروبا لينتشر بين القوطيين في إيطاليا الذين دعموا المبنى بالأعمدة والأكتاف الطائرة والدعامات المركبة مما سمح ببناء نوافذ ذات زجاج مُعشق زينت بمواضيع مقتبسة من الكتب الدينية وسيرة القديسين والأنبياء والملوك وحوادث من حياة المسيح، ويجب الإشارة هنا إلى أن الزجاج المُعشق كان يُسمى في أوروبا ب “إنجيل الفقراء” ففي ذلك الوقت كان الفقراء لا يستطيعون القراءة أو الكتابة، فأدى الزجاج المعشق دوراً وسيطاً في تلقين تعاليم الإنجيل وقصصه من خلال الرسوم والرموز والألوان التي دلت على مدلولات دينية معينة، وكان الراهب الألماني (ثيفيليوس) يطلق مصطلح “التزجيج” على هذا الفن؛ والذي يعني دمج الألوان مع الزجاج.

توافق المناخ مع المادة الخام:

يتبادر إلى الذهن عدة تساؤلات حول الاختلاف بين التزجيج العربي والتزجيج الغربي، فالزجاج المُعشق العربي استخدم مادة الجص “الجبس” أو الرخام المثقوب، حيث كان الجص يعطي لوناً أبيضاً مضيئاً، و زين بأشكال هندسية و نباتية التي اقتصر عليها الإسلام.
أما الزجاج المُعشق الغربي فقد استبدل الجص بقضبان من الرصاص بما يتوافق و المناخ البارد في أوروبا والرطوبة العالية السائدة معظم فصول السنة على خلاف المنطقة العربية ذات المناخ الدافئ المستقر، حيث عٌشق الزجاج الملون بشرائط من الرصاص لمرونته أيضاً على الطي والثني بما تقتضيه طبيعة الأشكال، و زين بأشكال نباتية وهندسية وحيوانية وآدمية تروي سرداً مستمداً من الكتاب المقدس.

ومن الجدير بالذكر ان كلا النوعين قد خرجا في وقتنا الحاضر من إطار نمط العمارة الدينية ومن منظومة القيم والمعتقدات القديمة التي ارتبطت في ذلك العصر.

الشمسيات والقمريات:

تطور الزجاج المُعشق في العصر المملوكي، و سُمي “بالشمسيات والقمريات” نسبةً إلى وظيفة نوافذ الزجاج المعشق والتي عكست ألوان متألقة عند سقوط أشعة الشمس صباحاً، وضوء القمر ليلاً، فإذا كانت النوافذ مستديرة الشكل سُميت “قمرية”، و إذا كانت غير مستديرة سُميت “شمسية”.

صناعة الزجاج المُعشق:
يضع الحرفي اللون المطلوب مع الزجاج ليصهره معه، مع مراعاة الاحتفاظ بدرجة شفافية الزجاج حتى يصبح كتلة واحدة، ثم يقطع إلى الأشكال المطلوبة والتي رُسمت من قبل على ورقة كأي تصميم هندسي، ويعتبر التصميم الورقي الأنموذج الأولي للتصميم.
بعد ذلك يقوم الحرفي بصقل كل قطعة زجاج لتنعيم أطرافها، ثم يُعشق الزجاج بالرصاص عن طريق تغليف كل قطعة زجاج بإطار من شريط نحاسي لإعطائها صلابة ولتسهيل عملية اللحام، حيث تحتوي أسلاك الرصاص على جوانب ناتئة على امتداد جانبيها لإحتواء عدة حواف زجاجية وتعشيقها في آنٍ واحد، وأخيراً تُعبأ شقوق التفريز بالمعجون و تكون النافذة جاهزة للتركيب.

أهميته و وظائفه:
صُمم الزجاج المعشق في بادئ الأمر كي لا يسمح لمن هم داخل المبنى برؤية العالم الخارجي؛ وكانت الغاية من ذلك عدم تشتيت فكر المؤمنين في المساجد والكنائس إلى الضوء الخارجي و عوامل الجو خارج المبنى، والتخفيف من حدة الضوء، ثم نفذت تصاميم الزجاج المعشق على المباني والمنازل والقصور والأبواب فساهمت بالحفاظ على خصوصية الساكنين ومنح المنازل والمباني إضاءة فنية رائعة من خلال مرور النور الطبيعي الذي يعطي جمالية بضوءه المتوهج، و ألوانه المتدرجة حسب قوة النور خلال ساعات النهار.

فن قيد الإندثار:
تواجه حرفة الزجاج المُعشق خطر الإندثار في وقتنا الحاضر؛ بسبب تحول معلمي هذه الحرفة نحو أعمال اكثر ربحاً، وبسبب قلة الطلب عليه؛ مما يعني عزوف الحرفيون عن توريث مهنتهم العريقة إلى أبنائهم الذين فرضت الحياة عليهم واقعاً جديداً وشروطاً قاسية كون هذا الفن فناً متجدداً من حيث التقنية والمواد المستخدمة، يتطور عبر الزمن بما يلائم احتياجات المجتمع.