أدبية، روائية و شعر, مقالات

بصلصة الكرنب .. نضجت قصيدة

بقلم، منال ياسين، غزة – فلسطين


على النقيض مما قاله الأديب الألماني يوهان غوته “Johann Goethe” عن أن: الموهبة تنمو وتترعرع في جو هادئ مُسالم؛ قال الأديب المصري توفيق الحكيم أن: لا شيء يجعلنا عظماء مثل ألم عظيم. وها هو الألم الفلسطيني يهيج بداخله طوفان الإبداع الجارف، لنجده يتجلى واضحاً في شخصية الشاعر والإعلامي سائد السويركي.
لو بدأنا الحديث عن سائد الشاعر ماذا تقول وكيف كانت البداية؟


كتبتُ الشعر لأول مرة حيث لم أكن أعلم أن هذا يُعدُّ شعراً، كان ذلك في الصف الأول الإبتدائي، فمن الغريب أن طفل بهذا العمر يُفكر في تركيب كلمات يحملها لحن وموسيقى انبعثت من ” استيج ” المدرسة، حيثُ الفرقة المدرسية التي كانت تُغنى “طلع البدرُ علينا من ثنيات الوداع” في عيد المولد النبوي، والتي لم أكن أحفظها في ذلك الوقت، فعلى ” دحلة ” شارع صلاح الدين وأنا في طريقي إلى البيت لازالت الموسيقى عالقة في ذهني، ربما هذا يُعدُّ مؤشراً لميلاد شاعر.


تم نشر أول نص لي في صحيفة كان اسمها “الميثاق” آنذاك، حين كنتُ في الصف الثاني الإعدادي، وهذا ما أحدث فارقاً في حياتي، فقد أشعرني بشيءٍ من الجِدية في استكمال الطريق. لكنَّ البداية الحقيقية كانت في المُعتقل حيثُ الشعر المُقفى والموزون، ففي أول عام لي هناك كتبتُ بالدمعة الحمراء من طبيخ الكرنب على الجدران، فلا أقلام ولا أوراق نستطيع خلالها تدوين أي شيء، فلم أجد أمامي سوى صلصة الطبيخ التي كانت تُعتبر غدائنا ذلك اليوم، إلى حين خرجتُ من السجن فاكتشفتُ أنني أحفظُ تلك القصيدة نظراً لقراءتها دوماً داخل الزنزانة، فقد كان مطلعها يقول:
نُحييكم نُحييكم ونُهديكم ثواني العمر نُهديكم..
ونرسُمكم على دمنا ليُزهِرَ في لياليكم..
ونُعطيكُم نشيدَ الروحِ يا أحبابَ نُعطيكم..
فإن شئتم خذوا منا مواسمنا.. خذوا أشلائنا منا.. خذوا دمنا ليُزهرَ ثورةً فيكم ..
وإن شئتم خذوا منا مواقعنا لنحيا في منافيكم..
فهذا القلبُ لم ينسى.. ولن ينسى محبتكم ولن ينسى أغانيكم…. إلى آخر الأبيات.


هل لسائد الشاعر طقوس معينة تُثيره للكتابة؟
الشعر لا يعرف زمان ولا مكان، فربما وأنا أعمل يخطر ببالي أحداث وأشياء تستثيرُني للكتابة، وقد تشعُر أن بداخلك فراغ يُعيدُك إلى عهد الطفولة، حيثُ الحجلة وبنات العم، فضغط الواقع البائس يجعلك تتردى للخلف لتُسجَّلَ من جديد أحداث باتت جُزءاً من الذكرى، وقد ظهر ذلك في قصيدة “حوار مع الظل”:
كأني أراني في لُعبة الظل..
في البدء كان الكلامُ على الرصيف الذي بلا أسفلت..
بناتٌ كثيراتٌ هنَّ بناتُ العم..
وحبلٌ يقسِمُ الهواءَ نصفين..
شبرة.. قمرة.. شمس.. نجوم
أي نوع من الشعر تُفضل؟ وأي لون تُحب أن تُبحر به وتجد نفسَك فيه؟
كُنتُ في السابق أكتب شعر التفعيلة والعمودي، حيث يُسموننا بــ”الرجُل الإيقاعي”، والذي يعني وجود موسيقى عالية في النص، وقد ارتبطت البداية بالوطن، فشخصٌ مُعتقل بالتأكيد سوف يكتب عن السجن والسجّان، السلك الشائك، البنادق الإسرائيلية، ووجه الأم البائس.
فيما بعد حرب 2008/2009، بدأتُ أغادر تلك الأسوار الشائكة المربوطة بالوطن، لأنهُ ليس شرطاً أن تكتب بشكل مُباشر عن الوطن، فقد تستطيع أن تقف على أرض الإنسانية وتلتقى مع أُناس من كافة الطوائف والأجناس، ومن هنا جاءت فكرة التحرر من قيود الشعر العمودي والتفعيلة إلى مساحات أوسع تحُدها التجربة الانسانية ولا شيء غيرها، فبدأتُ بمزج عدة ألوان من الشعر في قصيدةٍ واحدة، حيث العمودي والتفعيلة والزجل والعامي، بمعنى إزالة الفواصل التي حددوها علينا أجناس أدبية، فخرجتُ عن المألوف بقصيدة “لا أُريدُ مساءاً دونَ وجهَكِ” و”فراشات على لوزة الجارة”، فحتى النُقاد أعجبتهم الفكرة.

ما هي الكتب التي تستهويك لقراءتها؟
تجاوزتُ مرحلةً كُنت فيها أحب قراءة الروايات والشعر كثيراً، فقد أصبحتُ أقرأُ كُلَّ شيء، الفيزياء، الكيمياء، الفلسفة، التاريخ، السياسة، السينما والمسرح، فكُلُّ ما يقع بصرى عليه أقوم بقراءته، وقد أصبحَ لدىَّ على جهاز الحاسوب الخاص بي ما لا يقل عن “14 جيجا” تحوي عشرات الآلاف من الكتب المتنوعة.

ما هي أكثر قصيدة لك تعتبرها جزء أصيل من سائد؟
دائماً آخر قصيدة تُعبر عني، لكنَّ آخر قصيدة بعد شهرين أُصبح أكرهُها، ليس بمعنى الكُره، وإنما فقط على المستوى الفني، فكُلُّ يومٍ نعيشُه تنضُج فيه تجربتنا أكثر، فأنا أحبه على مستوى الموضوع، لأنه يُعبر عن طفولة سائد الشعرية، فأنا أفترض أن علاقة المبدع مع إنتاجه يجب أن تكونَ بهذا الشكل حتى يكون كُل يوم إبداع جديد وتطوير للذات، فالرضا عن الذات تجعلكَ تدور في فلكٍ واحد، والمبدع يجب ألا يحشُر نفسهُ في زاوية ويُغلق عليه بابَه.
متى تشعُر بجمال القصيدة ولذتها؟ هل في لحظة كتابتها أم لحظة إلقائها؟
أشعر بالسعادة عند الإلقاء كثيراً، وكلما كان الجمهور كبيراً كلما شعرتُ بالتجلي في الإلقاء وبلذة القصيدة، وأتذكر مهرجان “المربد الشعري” الذي دار في بغداد بالعراق، حيثُ الحديث عن آلاف الشُعراء النُخبة أمثال “محمد مفتاح الفيتوري” الذي كُنت أدرس قصائده أيام الدراسة، وفجأة وجدتُ نفسي أقف أمامهُ، كذلك محمود درويش وسميح القاسم والجواهري، فوجودك أمامهم يستدعي منك أن تتألق لتُعلن أنكَ موجود.


ما هي القضايا التي تُثير سائد للكتابة؟
عادةً كُن إنساناً، فالشاعر قبل أن يكون شاعر هو إنسان، لذا غادرتُ قصة فلسطين، فقد عبَّرنا عن المخيم كثيراً، وهذا ما يعنى أنه لابد أن نخرُج للتنفس بعُمق بدلاً من التنفس من “خُرم إبرة” ففلسطين تعني ما يقارب 13 مليون لكن إذا وقفت على أرض الإنسانية، فأنت إذاً جزء من حياة 8 مليار إنسان تتشابه تجاربهم معك، سواء على المستوى العاطفي أو الإنساني، كالفقر، الجوع، خيبات الأمل والحروب.


هل تجد أن هناك تعارض بين الشاعر والإعلامي؟
علاقة الإعلامي بالشاعر تجري على نقيضين، أولهما أن الاعلام يُسبب مشكلة للشاعر، فقد تركتُ كتابة الشعر لسبع سنوات، فالكتابة الإخبارية تُجبرك أن تكون واضح، دقيق، واقعي مما يجعلك مبتعداً عن الخيال، وتزداد الفجوة اتساعاً كلما كثُر ضغط العمل لتصل لمرحلة تحتاج فيها أن تتذكر كيف كُنت تكتب شعراً في السابق، فجاءت الحرب وأعادتني من جديد لجو كتابة الشعر، أما ثانيهما هو كيف للإعلامي أن يستفيد من الشاعر، فكونك جئت من تحت عباءة الثقافة كإعلامي فهذا ما يعكس لغتك الأدبية الجميلة على النص الإخباري، مما يُعطي للنص شخصيتهُ التي تُميزه عن غيره من حيث الخروج عن القوالب الجاهزة في الكتابة، وهذا ما يخلق لك بصمتك الخاصة، لذ ممكن للإعلامي أن يستفيد من الشاعر وليس العكس.

حدثنا عن علاقة الشعر بالثورة؟
من وجهة نظري أن من لا يملك مشروع لتنمية مهارات ومواهب الشباب على مستوى السينما والمسرح والأدب والشعر لن يُنجز ثورة ناجحة، فمن عرف فلسطين من خلال أشعار محمود درويش أكثر ممن عرفها من خلال السياسيين الذين مروا عليها، فنحن بحاجةٍ ماسَّة إلى المزيد من الاهتمام والدعم لكي نُحقق للقضية الفلسطينية شيء يخدمها بشكل فعَّال بعيداً عن السياسة التي تزُجنا دائماً إلى الهاوية.