أدبية، روائية و شعر

ليالي الخان – للكاتبة تسنيم ابو غياظة

هي الشمس كل يوم تحمل دفئها وترحل لتختفي خلف ذاك الجبل، نبتهج لرحيلها صيفاً، وفي الشتاء ننتظر حضورها، علها تطرد برودة التراب الذي نتكئ عليه، منذ الطفولة وأنا أتعجب منها إذ كيف تستطيع أن تلامس كل من في الخان، نحن المئة وثمانين بدويا، نرتجف من البرد ونبتسم للشعاع الذهبي وندعوه لاحتضان كل ذرةٍ من أجسادنا، هذا طبيعي ٌ جدا، صدقوني إن الذي ينام على التراب ويستيقظ تحت ألواح الزينكو سيشعر بالبرد القارص والحر اللاذع، فلهذه الألواح القدرة الهائلة على تجميع الحرارة وتسريبها بطريقة مذهلة، هي لا تفهم أنه عليها أن تكون باردةً في حزيران ودافئة ً في كانون، كانون قصة كبيرة بمفرده، فحينما يقفز المطر من السماء تحسب كل قطرة ماء منه مرتدية حذاءً حديدياً لتصل أخيراً إلى الزينكو وتضرب بأقدامها عليه، وأنت تحاول النوم تحته، يارب إن هذه الظروف قاسية، قاسية للغاية، ولكننا اعتدنا عليها وأحببناها، بكل بساطة بتنا نتخيل قفزات المطر رنين الكنائس الذي تتميز به المدن، أو ضرب أصابع محترفة على البيانو في حفلة ٍ موسيقية ضخمة، أحببنا هذا.

ولكن حينما يشتد الشتاء وتجن الرياح وتحضر العواصف كان الزينكو ينكشف عنا لتبللنا حبات المطر، كثير من الناس ماتوا وفقدوا أطفالهم بسبب البرودة، ومنهم من اختنق من الحرارة ، والطعام الله وحده يعلم كم نكابد حتى نحصل عليه، علينا الاستيقاظ لنبحث عن أرض ٍ خضراء حتى نطعم الحيوانات التي نربيها من أغنام ٍ وأبقار, دعني أخُبركَ عن الأبقار كانت لنا جارة اسمها نبيهة وهي أرملة تربي يتيمتين ومصدر رزقهن البقرة التي يحلبن منها للبيع وتصنيع الجبن.

وفي ليلة الأحد تشاجرتُ مع والدي وخرجتُ من المنزل حاولت أن أنام خارجه في أي مكان ولم أجد أفضل من حضيرة الأبقار وكانت المفاجأة: دخلت بهدوء إليها لألتقي بحسن العشريني أحد أبناء الخان في ذات المكان وكان خائفاً وأنا ربما خفت أكثر منه ولكننا اثنين نؤنس بعضنا حسناً لم نفكر بالمكان وقررنا البقاء في الحضيرة إلى أن يبزغ الفجر شعرنا بمرارة الجوع وكانت أمعاؤنا الفارغة تتصارع مع بعضها, ثم بدأنا بالتفكير في كيفية الحصول على الأكل لم يكن هناك أي طعام الساعة متأخرة والكل نائم سوى بقرة الخالة نبيهة أسرعنا إليها وحلبناها لم يتبق فيها حليب, الخالة نبيهة كانت ذات صوت يشبه الرعد وغضبها كالإعصار ونحن اثنين تجرأنا على الدخول إلى الحضيرة وليس هذا فقط بل لم نبقِ لها أي حليب لتبيعه وتطعم به طفلتيها اليتيمتين ففكرنا بطريقة ٍ حتى لا ينفضح أمرنا في الصباح، أنا وحسن لم نجرؤ على إشعال الضوء من باب الحذر ، فتحسست جيبي ووجدت فيه الولاعة التي اشتريتها من أحد الدكاكين التي تبعد عنا بضع كيلومترات، قدحت أول مرة ولكن الهواء كان يعبث في المكان، حاولت ثانية إلى أن هدأت الأجواء، وحينما نجح الأمر ظللت بيدي الأخرى حول الشعلة الصغيرة، رأيتها وهي تتراقص بين أصابعي وحسن كان يضحك!، بدأت أسمع انفجارات الرعد، وحسن منهمك في الضحك، حتى لطمته على كتفه وقلت له بصوت خافت: ما بك؟ أجننت! تضحك وترفع من صوتك وكأننا ضيفين عند نبيهة! ثم ما الذي جاء بك إلى هنا لا تقل لي أنك أيضا ً تشاجرت مع والدك؟

نظر إلي حسن ووجهه يبدي تشاؤما ً كبيرا ً وقال : دعني أخبرك أمرا ً يا باسل: قد تظنني أضحك على الخيال والشعلة المتراقصة ولكنني أضحك على الواقع، أتعلم؟ أنت تشاجرت مع والدك وجئت إلى هنا، لا عجب في هذا، ولكنك لن تتوقع سبب مجيئي أنا! في الحقيقة يا صديقي أنا منذ وقت لاحظت شيئا ً على هذه الحضيرة كنت أراقبه من بعيد من بيتنا، أقصد فتحات الزينكو، ولا شك بأنك متشوق جدا ً لتعلم ما الذي أتحدث عنه، فلا تقاطعني واسمع جيدا ً ما سأقول: منذ أسبوعين تقريباً وأنا أشاهد عصبة من الناس لا أدري أهم رجال أم نساء أم جميعهم، وأكاد أجزم بأنهم من المستوطنة التي أقيمت فوق الخان على الجبل، مستوطنين؟!

صرخت: .. ما بك يا حسن أجننت؟؟ كيف جئت إلى هنا وأنت تعرف كل هذا! ألم تخف؟ تسألني يا باسل وكأنك لست من سكان الخان! نعم خفت كثيراً ولكنني فضولي جداً جئت هذه الليلة حتى أرى ما الذي يفعله هؤلاء المستوطنين كل ليلة أحد ٍهنا، جاؤوا مرتين وأنا توقعت مجيئهم الليلة، فكرت أن أختبئ في مكان ما هنا فكرت في أشياء ٍ كثيرة، أيضعون قنابل؟ أم يخرجون كنزا ً مدفونا، أم ينقبون عن قطع أثرية علهم ينسبونها إلى التوراة ثم يطابقون بينها وبين مشروعهم الصهيوني بطرق ٍ احتيالية خادعة، رأسي امتلأ بالصداع كادأن ينفجر من التفكير.

حقاً أريد أن أعرف ماهي مصلحة هؤلاء من الحضيرة؟! وفي خضم الحديث والتفكير الذي بدأ يتصارع داخلي مما قاله حسن وجدت قشة ً صفراء على الأرض يبدو أنها سقطت من البقرة وهي تتناول طعامها، تناولتها عن الأرض، وحسن يضحك هازئا: وماذا تريد من هذه القشة يا باسل؟! قلت له: أريد أن أعيد ثديي البقرة كما كانا ساعدني يا حسن، كيف؟ عليك أن تمسك البقرة جيدا ً من قدميها وأنا سأضع القشة في فتحة الثدي وأنفخ بالهواء حتى يعبر منها إليه، حسناً ..

حسنا، إنها فكرة جنونية قال حسن، استغرق الأمر معنا نصف ساعة، نجحنا في الأمر فأصبح ثديها وكأنه مليء بالحليب ولا شيء يملأه سوى الهواء, سمعنا أصواتا ً من الخارج ترتفع تارة ً وتنخفض أخرى، خفنا كثيرا ً وقلنا: لا بد وأنهم المستوطنون، لقد جاؤوا يا باسل تعال إلى هنا لنختبئ خلف هذين الصندوقين هيا بسرعة، أسرع ولا تتكلم، فتح باب الحضيرة، فتحه ليس بالأمر المعقد الخالة تقفله بأسلاك الحديد الناعمة فهي مطمئنة على البقرة حيث وضعتها في مكان مخصص فلا يمكنها تجاوزه والهرب منه،

حينما فتح الباب رأينا فوانيس ووجوه وقبعات لم يكن لونها واضحا ً جيدا ً ولكننا تأكدنا من أنهم كانوا ثمانية مستوطنين من الذكور لم تكن بينهم إناث، سوالفهم منسدلة على الجانبين يرتدون ملابس بيضاء وفوقها معاطف وسراويل سوداء عريضة، ويقتنون المسدسات على خواصرهم، لم أسمع من حسن إلا نبضات قلبه التي تعالت من الخوف،

هؤلاء مسلحون ونحن لا نملك شيئا، لا نملك إلا تضارب النبض والنفس الذي يقاوم الفم المغلق ويحاول الصراخ، بدأ العرق يتصبب من مقدمة رأسي وكنت أمسحه بالكوفية التي ارتديتها كلما خرجت من المنزل، لا أدري ولكنها تمنحني الراحة، كثيرا ً ما أتحدث معها، وكأنها رفيقي الأقرب، تقدم الثمانية نحو البقرة ولم نتخيل أبدا ً ما بدأوا بفعله، جاؤوا ليفرغوها من الحليب، هؤلاء المستوطنون ليسوا بحاجته ولم يفرغوه داخل أوعية، أي لم يكن هدفهم السرقة، وإنما سكب الحليب على الأرض، بدأوا بالضغط على ثديها المليء بالهواء ولم يخرج منه إلا صوت الهواء كان مضحكا ً جدا ً، ولكنهم حينما وجدوها خالية من الحليب خرجوا وتركوا المكان ً ، خرجت وراءهم لأتأكد من أنهم جاؤوا من مستوطنة معاليه أدوميم أم كفار أدوميم فكلتيهما قريبتان من القرية،

وبهدوء اختبأنا خلف الحضيرة وشاهدنا اثنين منهم قد انسحبا باتجاه المستوطنة الأولى والاَخرون عادوا إلى الثانية ولكن بعد أن عبثوا بحضائر القرية كافة، نعم يأتوا ليفسدوا مصدر طعامنا، لم يقتلوا أياً من الحيوانات، ينتظروا حتى نهلك في رعيها وسقيها، ثم يُتلفوا ما ننتظره، يتلفوا طعامنا! ياه يا حسن إن العبث يعشش في عقول هؤلاء ، إذن أظنني فهمت الاّن لماذا قلت لي أنك تضحك على الواقع حسن، شاهدتهم ياباسل من قبل يوم الأحد الماضي ولكني كذبت نفسي لم أصدق أنهم يغامرون ليسكبوا الحليب على الأرض فقط، قلت في نفسي أنهم يبحثون عن شيء أكبر من هذا ! ولكن يا حسن، أتظن الذي يفعلونه بنا قليل؟

أتعلم إن استمروا في هذا فلن نستطيع البقاء هنا طويلاً، نحن نعتاش من هذا الحليب، لقد ضحكت عليك يا باسل حينما شاهدتك تحلب البقرة لتسكت جوعك، قلت ُ في نفسي أن نبيهة خسرت الحليب هذه المرة لينتفع به أحدهم وهذا ليس مبررا ً لك ولن أوافقك أبدا ً على فعلتك، إنها سرقة يا عزيزي، وليست سرقة عادية بل سرقة قوت أرملة وطفلتين يتيمتين ! جريمة، جريمة كبيرة يا باسل، وأنت يا حسن شاركتني الجريمة لقد شربت منه معي أكنت تواسيني؟!،

لا ولكني قلت بأنه لو قدم المستوطنون قبلنا لكانوا سكبوه على الأرض لا تقلق صباحا ً سأخبر الخالة بالذي يحدث كل أحد، وسأحاول تعويضها عن الحليب لا تخف، لن أخبرها بأنك من أفرغت البقرة من حليبها اتفقنا؟ اتفقنا يا حسن، والاَن يا باسل هيا معي إلى بيتنا تبيت معي للصباح، وتغادر إن أردت

لم يكن لدي حل اَخر فذهبت مع حسن إلى بيته أشعلنا هنالك النار في أعواد الحطب بين خمسة أحجار كبيرة وتسامرنا حتى الصباح، انضم الينا والد حسن وأخيه الصغير علي، وتحدثنا للعم مسعود عما حدث معنا الليلة في الحضيرة ، وغضب لما سمع: أأنتما متأكدان مما تقولا؟

نعم يا أبي وهذا ليس بغريب عن المستوطنين لهم جرائم كثيرة سابقة، ولا أريد أن أذكرها جميعنا نعلمها، إذن دعاني أخبركما عن علي هذا الصغير فلست يا حسن وحدك من تراقب المستوطنين! ليلة البارحة في نفس المكان هنا وقف أمامي ورجع خطوتين إلى الوراء وبدأ بتمثيل ما يقول وكأنه ممثل بارع أو خريج أحد معاهد السينما .. حقاً مشاهدته تأخذ بالهموم وترمي بها خلف متاريس الفكر العالق بين هذا وذاك .. وإذا به يضرب بقدمه اليسرى على الأرض بقوة ويصرخ : ليتني أمتلك شعراً منفوشاً كنتاشا ابنة اليهودية .. لم أجرؤ عل الضحك حتى وقلت له: أهي كبيرة؟

أجاب باستخفاف: لا فأنا أطول منها وأكبر .. فضحكت وقلت: ربما هي تصغرك بسنة او اثنتين حسناً يا علي أنتَ عمركَ خمس سنوات وربما هي ثلاث .. فأخبرني يا بطل لماذا ترغب بأن يكون لك شعر مثلها؟ .. فقال بثقة: حتى أستطيع أن أصيد العصافير … لم أفهم يا علي وما علاقة الشعر بالصيد؟.

نعم يا أبي لقد رأيتُ نتاشا تقف أمام المنزل وتضع رأسها على السور بدون حركة وإذ بثلاثة عصافير تقف فوق رأسها وتبدأ بنزع شعرها ورفعت نتاشا يدها وأمسكت بعصفور .. الدهشة لم تفارقني أبداً وفي اَن الوقت كنت أقول في نفسي هل من الممكن أن يكون خيال علي نسّاجاً لمثل هذا الموقف لا لا .. اقتربت من علي أكثر ووضعت يدي على كتفيه وقبلته على رأسه ثم أكملت ُ حديثي معه … هل أنت متأكد مما تقول يا بني؟ ..

نعم يا أبي لهذا أريد أن يكون لي شعراً أشقراً كشعرها .. ولكن يا ولد الشعر الطويل خلقه الله للبنت فهل أنت رجل أم فتاة؟! .. لا يا أبي ولكنني أريد أن يكون عندي عصفور كنتاشا .. حسناً يا أزعر سأشتري لك عصفوراً جميلاً عندما أذهب للمدينة، نتاشا والتي مثلها تستخدم الحيل لتضحك على الطيور، فالعصفور يظن شعرها قشا ً يمكنه استخدامه في بناء عشه، وهي تعتبر هذه الحيلة وسيلة ً مميزة لاصطياده، أتعلمون يا أولاد؟ حيلة نتاشا تشبه كثيرا ً الاَلية التي تتبعها دولتها في الحصول على ماَربها حيث الحيل والخدع والأكاذيب فالغالية تبرر الوسيلة لديهم، وإفساد مصدر طعامنا لم يكن عبثيا ً هم يحاولون إجبارنا على ترك الخان والمغادرة ،
إذن لماذا لا نغادر ونختصر على أنفسنا الكثير من العناء يا عم؟ نغادر يا باسل؟ نغادر؟؟ وهل غادر والدك الخان حينما أنهكته العواصف؟ لا ولكنهم سيعودوا لإزعاجنا من جديد ،

والعواصف؟ ألن تعود في العام المقبل يا باسل؟
ستعود يا عم ستعود، قلت هذه الكلمات وأنا أفكر فيما سيحدث فعلا ً في الأيام المقبلة! لم يكن حديث العم مسعود مطمئنا ً ، وسؤاله عن هؤلاء المستوطنين زاد من خوفي، فكرت قليلا ثم سألت: إذن ماذا يتوجب علينا أن نفعل؟ بماذا يا باسل؟ بهؤلاء المستوطنين يا حسن !
إن الذي علينا فعله الاّن هو إخبار الخان بالكامل عما يحصل يا أولاد ، بدأوا بالأبقار والمواشي، في المرة القادمة سيقتلوا البقرة بلا شك ولا نريد أن تصل بهم الأمور إلى رقابنا !

ولكن يا عم الخان كله لا يشكل ربع مستوطني أدوميم! وإن نحن أخبرنا الناس ربما نصل إلى نتائج لا تحمد عقباها! ولا تنس َ أن الخان مطوق من الجانبين… لا أعلم ولكنني مضطرب جدا ً ، ولا أدري ما الذي علينا فعله، أنخبر الناس ونخوض حربا ً ليست عادلة؟ فلا الأعداد متكافئة ولا السلاح متوفر معنا؟! أم نصمت لتصل السكاكين رقابنا بهدوء؟ على كل حال أنتما تعلمان جيدا ً أني أدرس الصحافة، سأحاول كل ليلة أن أكتب َ أحداث ليالي الخان، أستاذي سيساعدني في نشرها، هو يمتلك جريدة ً توزع على أكثر من منطقة ربما نجد الحل، ولكني أتساءل إن كان هنالك قرّاء حقيقيون لهذه الجرائد كلها ؟! والاّن أود العودة إلى البيت، وحل مشكلتي مع والدي، نحن لدينا مشكلة أكبر علينا أن ننهي مشاكلنا الصغيرة ونتفرغ لأجلها .. سلام الله عليكم.