الشباب و الرياضة, سياسية و اقتصادية, مراجعات لكتب و قضايا اجتماعية, مقالات

جدار في بيت القاطرات


رواية الهوية والخصوصية في الداخل الفلسطيني المحتل
بقلم الأسير: حسام زهدي شاهين
سجن نفحة الصحراوي 30-3-2020
هل ما يفصل بيننا وبين الاسرائيليين جدار أم احتلال؟!
للإجابة على هذا السؤال الشائك بناء على المعطيات التي تضمنتها رواية “جدار في بيت القاطرات” للكاتب الفلسطيني/مصطفى عبدالفتاح، سألجأ خلال هذه القراءة إلى منهج تفكيك الرواية إلى محاورها الأساسية، ومن ثم سأعيد تركيبها حتى تبدو ملامحها أكثر وضوحاً.

تدور أحداث هذه الرواية في العام 1979، وتحديداً في الذكرى الثالثة ليوم الأرض الخالد، أي قبل 44 عاماً من كتابة هذه الورقة، إلى جانب أنها تعكس أجواء وتداعيات قمة كامب ديفيد التي أفضت إلى زيارة (السادات) في ذلك العام لدولة الإحتلال، وما أسفرت عنه تلك الزيارة من خرق وخلخلة لأسس الاجماع العربي، ومن طعنة نجلاء أصابت الجسد الفلسطيني.

يقدم لنا مصطفى عبدالفتاح صورة مكثفة عن طبيعة الصراع الفلسطيني – الصهيوني، عبر نظرة عدائية ترمق فيها” رونيت”، مجندة صهيونية شقراء الشاب “ناصر” إبن احدى القرى الفلسطينية المهجرة في الداخل الفلسطيني المحتل، وهو جالس أمام محطة الحافلات بانتظار الحافلة التي ستقله إلى “تل أبيب” في طريق ذهابه إلى جامعته في بئر السبع لبدء سنته الدراسية الأولى، فالمجندة تمارس مهمتها في مطاردة الملامح العربية “لإختبار ما تدربت عليه، ومعرفة مدى قدرة عينها “الأمنية” على التمييز بين العربي بناء على هويته البيولوجية، وبين اليهودي الشرقي الذي يشاركه بعض الملامح، وليس مهماً بالنسبة لها إن كان يحمل جنسية هذه الدولة أم لايحملها، ومن هذا الشق ينطلق مصطفى لإنارة قضيتي الهوية والمواطنة بكل ما تحملاه من أوجاع ونضال لفلسطيني الداخل المحتل.

كما ويستعرض الكاتب شقاً من التاريخ الاجتماعي للواقع الفلسطيني إبان تلك الحقبة من خلال استعراضه للوقت وقيمته المفقودة في ثقافتنا، وكأن القرية النائية التي كان يعيش فيها “ناصر” تقع خارج الزمن، لأنها تعيش “في عصور غابرة ينقصها أدنى الخدمات الانسانية من ماء وكهرباء وطرق معبدة” (6)، فالوقت في حياة القرويين مسألة ثانوية!!

في ذات السياق ينتقل بنا مباشرة لمفارقة “النكبة”، المفارقة التي أعلت من شأن التعليم وقيمته، وعززت من المكانة الاجتماعية للعائلة التي يوجد بين أفرادها شخص متعلم، وجعلت من التعليم تعويضاً معنوياً عن فقدان الوطن. فأم ناصر تقتطع اللقمة من أفواه أولادها الصغار حتى تُعلم ناصر، وترفع رأسها به، أما بالنسبة لأبي ناصر: التعليم هو الذي سيضيء المصباح الذي انطفأ منذ النكبة. وهو الكفيل بتحرير إبنه من عبودية العمل لدى “الخواجا”، وبالنسبة لناصر، هو السلاح الوحيد في وجه التخلف، والقادر على حماية حبه ل “مريم”!

تتمحور حبكة الرواية حول العلاقة التي تنشأ بين “ناصر” الطالب الفلسطيني، وبين “رامي” الطالب اليهودي في “بيت القاصرات”، الأسم الذي يطلقه الطلبة على السكن المشترك للطلاب في الجامعة، ففي كل بيت من بيوته يسكن أربعة طلاب، ويعيش كل اثنان منهم تقريباً في ذات الغرفة التي يفصلها جدار “لايصل السقف، ليبقي على فتحة واسعة تتصل بالغرفة الثانية، بحيث تُسمع كل حركة، وكل همسة فيها بدون أن ترى شيئاً (92). وعند توزيع الغرف على الطلبة، يضع القائم على السكن الطالب اليهودي في الجزء الذي يمكنه فيه من التحكم من مجرى التنفس والتهوية، مبقياً الساكن الفلسطيني تحت رحمته، وهذه كفاية واضحة عن فترة الحكم العسكري التي استهل فيها الكاتب روايته، وقد رزح تحت وطأته فلسطيني الداخل المحتل لغاية العام 1966، ولم تنتهي آثاره وممارساته الأمنية مطلقاً، وإنما انتقلت بعد انتهاءه رسمياً إلى المرحلة الخفية التي يديرها جهاز الأمن العام “الشاباك” بكل عنصريته، وقد شدد فيها ولا زال يشدد الخناق على رقاب فلسطيني الداخل في كل مجالات الحياة، ويصادر منهم بمعاونة المؤسسات الأخرى، حقوقهم السياسية والقومية كافة.

يكشف لنا مصطفى في روايته أزمة الهوية بكل أبعادها التي عاشها فلسطينيو الداخل بعد النكبة، والتي لازال يعيشها البعض منهم حتى اليوم، فيظهر جلياً محاولات تشويه هوية المكان، ومحاولات ترهيب الفلسطيني من هويته الوطنية، فيشير إلى ما تتعرض له من انتهاكات متواصلة بهدف تحطيمها والغاءهما عن الخارطتين الجغرافية –السياسية، والديمغرافية-القومية، كون المشروع الصهيوني قائم على إحلال الرواية الصهيونية المخترعة في مكان الرواية الفلسطينية الأصلانية التأريخية، فالمشروع الصهيوني الاستعماري الاحلالي بني أصلاً على أنقاض الشعب الفلسطيني.
هذا الشق في أزمة الهوية ذات الحق المشروع الذي يبرز أمام الآخر، يتجلى في رفض ناصر إعطاء بطاقة هويته للمجندة التي اصطادته من بين طابور طويل من الركاب كونه عربي، والجدل الذي دار بينهما وجعل من هويته القومية وسيلة مقاومة، أدى إلى اعتقاله والإعتداء عليه بالضرب من قبل مجموعة من الجنود، بعد ما قاموا باقتياده إلى غرفة جانبية مخصصة لهذا الغرض، ليعرضوه بعد ذلك أمام ضابط مستاء من جرأته، ومن رفضه الخنوع لرغبة المجندة، وبعد تأنيب ناصر يعرض عليه بالوقاحة الصهيونية المعهودة فكرة الارتباط، وكأن شيئاً لم يحدث!

ما أن يخرج ناصر من غرفة الأمن حتى يصبح متهماً في نظر الجمهور، فالامن والاعلام المجند في دولة الاحتلال، هما اللذان يصوغان وويخلقان الرأي العام حول أي قضية كانت، والانعكاس الواقعي لهذه النتيجة، لخصه الكاتب في الحوار الاستفزازي الذي دار بين مجموع المسافرين داخل الحافلة، حول صحة أو عدم صحة تصرف الجنود مع ناصر، التصرف الذي واجه معارضة من الأقلية، واستحساناً من الأغلبية التي اعتبرته من “الاغيار” (30)، وأجازت ذلك بناء على معتقداتها الايدلوجية والعقائدية، الأمر الذي دفع ناصر إلى الخروج عن صمته والوقوف وسط الحافلة مخاطباً إياهم، بقوله:” إلى متى ستنشرون حقدكم الأعمى، متى ستفهمون أن هذه البلاد وطني، وهذا الوطن لي… اخجلوا من عنصريتكم، فعنصريتكم لن تخيفني، وحقدكم لن يثنيني، أنا الأصل هنا وأنتم الغرباء” (31).

ويتجلى توهان الهوية، في ابتلاعها، لدى سائق الحاقلة الذي اتضح انه عربي، وخشي من الكشف عن هويته إلى أن هم ناصر بالنزول من الحافلة في المحطة المركزية، فاغتنم فرصة أن يكلمه بصوت منخفض خشية أن يلحظه أحد، معبراً ل ناصر عن اعجابه بموقفه البطولي حينما تصدى لهم جميعاً لوحده.

ومن الهوية والتوهان، الى الهوية والالتباس، أي أزمة الهوية الداخلية، داخل الذات الفلسطينية بمكوناتها المختلفة، حيث تلمس شكلاً من أشكال هذا الالتباس في نظرة ناصر التعاطفية المحايدة مع العمال ذوي الملابس الرثة، الذين يسعون خلف لقمة العيشن باعتبارهم “عمال مساكين من المناطق المحتلة (51)، وكأن هذه المناطق ليست جزءاً من الوطن المحتل الذي كان يصرخ باسمه قبل قليل؟! في الوقت الذي يسارع فيه الى شراء صحيفة عبرية، ويتأبطها بغرض التمويه لكي لا تتكرر معه حادثة الصباح، رغم أنه لايجيد قراءة هذه اللغة.

أما هوية المكان، فيجسدها في المقارنة التي يرسمها بين صحراء النقب المتناسقة بطبيعتها وسكانها وروحها، وبين مشهد المدنية العصرية التي تسعى لتحدي المكان “وتتحدى الطبيعة بمحاولة بائسة لتغيير المعالم” (57)، وبهذه المحاولة تمثل عريماً ضعيفاً للصحراء، مما يعيدنا للأسطورة الصهيونية الأولى التي ادعت في بدايات القرن الماضي تخضير الصحراء الخالية من السكان، بينما كانت الحقيقة تهويدها، وتغيير هويتها، ومنذ ذلك الوقت ومعركة تهويد النقب تتحطم فوق صخرة الصمود البدوي الذي تمثل قرية “العراقيب” نموذجه الحي تشاركها في ذلك بقية القرى البدوية الغير معترف بها من سلطات الاحتلال، وتمنح النقب وجهة العربي الأصيل.

تتصاعد الأحداث في سردية لا يتسع المجال للتطرق لكل تفاصيلها، لكن حب “مريم” يلعب في قلب ناصر محركاً مهماً من محركات انخراطه في خضم العمل الكفاحي والنضالي، والدفاع عن قضايا شعبه، رغم بعض الاخطاء التي انزلق اليها، فالحب كان ولازال وسيبقى رافعة معنوية حقيقية في زمن المقاومة، كما هو مختلف الأزمنة والظروف!

وبحكم التجربة العملية والعلم يتنامى وعي ناصر، ويدرك قضاياه الوطنية بشكل أوضح، وتتطور لديه ملكة التمييز الدقيق بين ثنايا الالتباس، ويصبح قادراً على التفريق بين الوطن الذي ينتمي اليه بكل مكونات هويته التاريخية، وبين الدولة التي فرضت عليه وعلى وطنه وشعبه بفعل الاستعمار والقوة، ومنحته بطاقة هويه زرقاء رغماً عنه، وبحكم تموضعه الابستمولوجي الجديد، برسم الحدود الفاصلة بين الهوية كانتماء وطني-قومي يعتز به، وبين المواطنة كحق قانوني-مدني يناضل من أجله.

وها هو في حواره مع “راحيل” يرفض أن يساوي بين الضحية والجلاد، عندما طلبت منه أن يعرفها على عائلة من الخليل” قتل الجنود ابنها الصغير وهو يلعب ببندقية بلاستيكية للأطفال، وقام الوالدان بالتبرع بأعضاء إبنهم الشهيد لإنقاذ العديد من المرضى” (164)، الذين كان من بينهم إبن لعائلة يهودية متدينة، والأدهى من كل ذلك أن هذه أل “راحيل” تعتبر نفسها ضحية كما هو حال هذه العائلة، حيث كانت قد فقدت إبنها الجندي في الحرب، لكن ناصر يحسم موقفه من هذا الطلب وبرفضه المشاركة في هذه المسرحية قائلاً لها: “أنا سأكون هنا معهم ومنهم، وسأكون هناك منهم ومعهم” (165)، معتبراً أنها تريد أن تضمد جراحها على حساب مصابهم!!

تبلغ الرواية ذروتها مع شدة الألم الذي يجتاح ضرس “رامي”، مساء الجمعة، وبما أن الحياة عند اليهود معطلة صبيحة يوم السبت، وألم “رامي” يتفاقم، ولم يتوقف، يقترح عليه “ناصر” أن يصطحبه برفقة صديقه أحمد للعلاج في غزة، يوافق “رامي” تحت وطأة الألم رغم الهلع الذي دب في أوصاله من فكرة العودة إلى المكان الذي خدم فيه كجندي ضمن جيش الاحتلال.

عند وصولهم إلى غزة وجدوا أنها تعج بالمظاهرات الساخطة على قرار “السادات” زيارة دولة الاحتلال، ونيته القاء خطاب في جامعة بئر السبع، هناك استقبلهم “صقر أبوشباك” صديق أحمد، وأرسل “رامي” مع أحد العاملين لديه، إلى عيادة طبيب الأسنان، في هذه الأثناء تندلع مواجهات بين قوات الاحتلال والمتظاهرين، مما يسفر عن استشهاد شابن وإصابة عشرة آخرين، واعتقال خمسة مطلوبين، فيقرر “أبوشباك” احتجاز “رامي” دون علمه، ويخبئه في بيت برفقة مجموعة من الشباب بحجة حمايته، ولحظة اعلامه ل “ناصر” بالأمر، يستشيط ناصر غضباً من هذا التصرف الطائش والخطير، ويرفضه، إلا أن “أبوشباك” يصر على رأيه مبرراً ذلك بأنه يريد إجراء عملية تبادل مقابل المطلوبين الذين تم أسرهم.

يستميت ناصر في الدفاع عن موقفه الرافض للغدر، ويصر على إطلاق سراح “رامي” الذي دخل الى غزة كصديق، وبرفقة أصدقاء، وتحت حمايتهم، أو أن يتم احتجازه معه، وبعد جدل حاد يوافق “أبوشباك” على إطلاق سراح “رامي” مقابل أن يحمل “ناصر” معه حقيبة متفجرات ليضعها في طريق الرئيس “السادات” يوم زيارته للجامعة، يوافق “ناصر” مكرهاً ومرغماً على هذا الحل، بينما يضمر في قرارة نفسه أنه قادر على التخلص من المتفجرات ما أن يتجاوز “الحدود بين المدينتين” (194)، ومعه حق في ذلك لأن المقاومة قناعة ذاتية وليست ابتزاز خارجي!

هنا يتجسد الشكل الأقسى مرارة من أشكال أزمة الهوية الداخلية “التوهان المشوه”، حيث يتجلى المشهد الروائي بكل وضوح، على شكل جرح نازف في قلب هويتنا الوطنية، جرح صنعه الاحتلال، ومؤسسته الأمنية بوعي تام، من أجل تدمير النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وضرب وحدة الشعب، والقضاء على روايته التاريخية، وبكل أسف تم التعاطي مع هذا “التوهان المشوه” من قبل البعض منا بتوجيهات أسياده، والبعض الآخر بجهل هدام، والبعض الواع بسياسات غبية وعجفاء، وفي كل الحالات بقيت النتيجة واحدة، والجرح نازف، والهوية متشظية، ففي الداخل الفلسطيني المحتل، لايوجد أبناء الدولة، ولا عرب الشمينت، ولا عرب اسرائيل. يوجد الفلسطينيون العرب، اصحاب الوطن الاصلانيين، وشهادة صك الملكية لفلسطين التاريخية المكتوبة من دم ولحم والأمل في تصويب التوهان وعلاج التشوهات منوط بجيل الشباب، وبوعيهم الخلاق، وتعاونهم المشترك، فهذا الجيل هو القادر على اصلاح ما أفسده العطار وما أفسده الدهر!!
ولكي نضع أيدينا على هذا الجرح، “التوهان المشوه”، كما شخصه لنا مصطفى عبدالفتاح، في هذا العمل الأدبي الرائع، دعونا نستعرض بعضاً من الحوار الذي دار بين “صقر أبوشباك” وبين “ناصر الغريب”:- (193-194)

أنتم تتصرفون مثلهم، وتعيشون مثلهم، أنتم لايهمكم غير أنفسكم، أصبحتم صهاينة، نسيتم قضيتنا، وتدافعون عنهم.

نحن عندكم صهاينة، ونحن عندهم عرب ارهابيون؟ على ما يبدو نحن ضائعون بينكم وبينهم، برغم أننا الجذر الأقوى المتمسك بكل ذرة من ذرات تراب الوطن، نعيش فيه ويعيش فينا.

نحن شعب واحد، وعليكم أن تقفوا إلى جانبنا.

نحن شعب واحد، ولنا خصوصيتنا وطريقنا بالنضال، نحن من بقي في أرضه، ونضالنا البقاء على أرضنا.
مجرد القبول بمبدأ النقاش الداخلي على قاعدة “نحن” “وانتم”، بناء على مكان السكن فوق تراب الوطن الواحد، يعني تشظي الهوية وتحطيم الوحدة الوطنية. وبكل أسف يمكننا القول بأن نمرة الضفة وغزة والقدس والداخل، والعائد واللاجئ والبدوي والمدني والشتات، وغيرها من النعرات الهوياتية القاتلة، حاضرة في ثقافتنا بشكل ملموس، وهناك من يغذيها لحسابات قبلية وأحياناً سياسية مقيتة، مع رفضنا التام للأخذ بالتصميم الخطير والمدمر.

في النهاية يتم اعتقال ناصر، ويتعرض للتحقيق والاهانة، ويوم محاكمته يتجمع اصدقاءه من عرب ويهود في قاعة المحكمة للتضامن معه، والدفاع عنه، والمطالبة بحريته، غير أنه يحاكم ويزج به في السجن، لكن السجن يتقزم أمام تعاهده ومريم على اكمال حلمهما!!

كما أن الارتجاجات التي أحدثها يوم الأرض في الوعي الفلسطيني، امتدت مساحتها لتطال الوعي القومي الذي قرر على المستوى الرسمي في إطار جامعة الدول العربية إدانة وتجريم هذا البقاء، والتشبث بأرض الوطن حيث وصف هذه الاقلية بالخيانة، وكذلك الوعي الدولي الذي كان لايعلم عنها شيئاً، وان علم لايعترف بها أو يتجاهل وجودها.
أعتقد أنه كان من الأفضل ل مصطفى أن يعالج حالة الالتباس في التمييز بين خصوصية النضال الفلسطيني في الداخل المحتل، واحترام من يتبنى هذا التوجه، بكل أدواته الكفاحية الخاصة، وبين حق الفرد في مقاومة الاحتلال، واحترام خياراته الأخرى، لأن الاستعمار الصهيوني للوطن الفلسطيني، كان ولايزال وسيبقى استعماراً أجنبياً فرضه الاحتلال العالمي في موازين القوى إلى جانب أن مصطلح الخصوصية يكتنفه الكثير من الغموض، مالم تحدد معالمه بشكل واضح، حتى لايبقى منفذاً فضفاضاً للتهرب من تحمل المسؤوليات الوطنية والتاريخية وخاصة وان التجربة اثبتت لنا جميعاً بأن الفراغ الناجم عن غياب الكفاح والمقاومة، تملؤه الاستكانة والخنوع.

ان القيمة الادبية لهذه الرواية، والمكانة التي تحتلها في تأريخ مرحلة مهمة من مراحل تبلور الهوية الوطنية في الداخل المحتل، تثري التراث الفكري، وتضيء على التجربة الانسانية الفلسطينية في واحدة من أهم محطاتها، محطة يوم الأرض الخالد كونها ذاكرة تاريخية لبدايات الوعي بالذات، ففي يوم الأرض مات الخوف، وولدت الهوية الوطنية، ومعها ولد الفلسطيني الجديد، القادر على التحدي والمواجهة.

ان الحِجاج الذي يلجأ الى استخدامه مصطفى، يتجاهل شرط المقابلة، الذي يمنح تصوراته التوازن المطلوب، وبالتالي تذوي حجته، ويضحضها الواقع الملموس عندما يتعلق الأمر بمفهوم النضال المشترك، فالشواهد التاريخية تؤكد بما لايدع مجالاً للشك، أن مساحة هذا النضال تتقلص بإطراد بدلاً من أن تتمدد، وذلك ببساطة متناهية، مرتبط بطبيعة الحركة الصهيونية وكل مخرجاتها من أحزاب سياسية مختلفة، سواء أكانت يسارية أم يمينية، فهي طبيعه عنصرية اقصائية تقوم على عنصر التفوق والفوقية في علاقتها مع الآخر الفلسطيني، وان اعترفت له بشيء فهي تعترف له جزئيا بالحقوق المدنية، ولا تقر بان الداخل الفلسطيني محتل، بكل مدنه وقراه التاريخية، وإنما تُجاري الواقع انطلاقاً من مبدأ ضمان إستمرار يهودية الدولة.

إن فقدان الوطن، ليس كفقدان شخص عزيز، فالانسان الذي يموت تبقى ذكراه الطيبة، ويختفي ألم فقدانه بمرور الزمن، لكن الوطن لايموت حتى وإن تم فقدانه، بل يزداد ألم الفقدان ويبقى على قيد الحياة، يكبر ويكبر، ويتوالد مع توالد الاجيال، ولايزول هذا الالم إلا بعودة الوطن وتحرره، لذلك يعيش الاحتلال في وعي، ويسعى دائماً إلى تحطيم إدارة الشعب المُستعمر، وإن لم يستطع، وهو لن يستطيع، يعمل على تطويعها واضعافها من خلال ضرب وحدتها الداخلية، ولولا البقية الباقية من شعبنا الفلسطيني في الداخل المحتل، البقية التي شكلت بروحها الشرنقة الحامية لهوية وطننا الواحد، وثبتت بوجودها روايتنا التاريخية، لكانت قضيتنا الوطنية في مهب الريح وفق المعطيات الراهنة.

ان الوجود الفلسطيني في الداخل المحتل هو شهادة اللاجئين الحقيقية لملكية الأرض الفلسطينية وبطاقة العودة التي لا تمحوها كل المؤامرات الصهيو-امريكية.

وفي النهاية أقول: لو كانت المسافة التي تفصل بيننا وبينهم مجرد جدار لتمكنا من تجاوزه قبل عقود خلت، ولكنها مسافة مصنوعة من “نكبة” ومن “تطهير عرقي” ومن “عنصرية” ومن احتلال، وظلم، وقهر، واقتلاح، ترافقنا منذ لحظة الولادة حتى ولوج القبر!!

بصراحة، انها رواية ممتعة، وجديرة بالقراءة، وترفع البطاقة الحمراء في وجه كل من يعبث بوحدة الشعب الفلسطيني أو يحاول المساس بهويته الوطنية. شكراً لمصطفى عبدالفتاح، ابن كوكب ابوالهيجا، على هذا العمل الرائع، وعلى نجاحه في إثارة إشكالية الهوية والخصوصية لفلسطيني الداخل المحتل بصورة واقعية، تلامس الروح والوجدان.

جدار في بيت القاطرات
رواية الهوية والخصوصية في الداخل الفلسطيني المحتل
بقلم الأسير: حسام زهدي شاهين
سجن نفحة الصحراوي 30-3-2020
هل ما يفصل بيننا وبين الاسرائيليين جدار أم احتلال؟!
للإجابة على هذا السؤال الشائك بناء على المعطيات التي تضمنتها رواية “جدار في بيت القاطرات” للكاتب الفلسطيني/مصطفى عبدالفتاح، سألجأ خلال هذه القراءة إلى منهج تفكيك الرواية إلى محاورها الأساسية، ومن ثم سأعيد تركيبها حتى تبدو ملامحها أكثر وضوحاً.

تدور أحداث هذه الرواية في العام 1979، وتحديداً في الذكرى الثالثة ليوم الأرض الخالد، أي قبل 44 عاماً من كتابة هذه الورقة، إلى جانب أنها تعكس أجواء وتداعيات قمة كامب ديفيد التي أفضت إلى زيارة (السادات) في ذلك العام لدولة الإحتلال، وما أسفرت عنه تلك الزيارة من خرق وخلخلة لأسس الاجماع العربي، ومن طعنة نجلاء أصابت الجسد الفلسطيني.

يقدم لنا مصطفى عبدالفتاح صورة مكثفة عن طبيعة الصراع الفلسطيني – الصهيوني، عبر نظرة عدائية ترمق فيها” رونيت”، مجندة صهيونية شقراء الشاب “ناصر” إبن احدى القرى الفلسطينية المهجرة في الداخل الفلسطيني المحتل، وهو جالس أمام محطة الحافلات بانتظار الحافلة التي ستقله إلى “تل أبيب” في طريق ذهابه إلى جامعته في بئر السبع لبدء سنته الدراسية الأولى، فالمجندة تمارس مهمتها في مطاردة الملامح العربية “لإختبار ما تدربت عليه، ومعرفة مدى قدرة عينها “الأمنية” على التمييز بين العربي بناء على هويته البيولوجية، وبين اليهودي الشرقي الذي يشاركه بعض الملامح، وليس مهماً بالنسبة لها إن كان يحمل جنسية هذه الدولة أم لايحملها، ومن هذا الشق ينطلق مصطفى لإنارة قضيتي الهوية والمواطنة بكل ما تحملاه من أوجاع ونضال لفلسطيني الداخل المحتل.

كما ويستعرض الكاتب شقاً من التاريخ الاجتماعي للواقع الفلسطيني إبان تلك الحقبة من خلال استعراضه للوقت وقيمته المفقودة في ثقافتنا، وكأن القرية النائية التي كان يعيش فيها “ناصر” تقع خارج الزمن، لأنها تعيش “في عصور غابرة ينقصها أدنى الخدمات الانسانية من ماء وكهرباء وطرق معبدة” (6)، فالوقت في حياة القرويين مسألة ثانوية!!

في ذات السياق ينتقل بنا مباشرة لمفارقة “النكبة”، المفارقة التي أعلت من شأن التعليم وقيمته، وعززت من المكانة الاجتماعية للعائلة التي يوجد بين أفرادها شخص متعلم، وجعلت من التعليم تعويضاً معنوياً عن فقدان الوطن. فأم ناصر تقتطع اللقمة من أفواه أولادها الصغار حتى تُعلم ناصر، وترفع رأسها به، أما بالنسبة لأبي ناصر: التعليم هو الذي سيضيء المصباح الذي انطفأ منذ النكبة. وهو الكفيل بتحرير إبنه من عبودية العمل لدى “الخواجا”، وبالنسبة لناصر، هو السلاح الوحيد في وجه التخلف، والقادر على حماية حبه ل “مريم”!

تتمحور حبكة الرواية حول العلاقة التي تنشأ بين “ناصر” الطالب الفلسطيني، وبين “رامي” الطالب اليهودي في “بيت القاصرات”، الأسم الذي يطلقه الطلبة على السكن المشترك للطلاب في الجامعة، ففي كل بيت من بيوته يسكن أربعة طلاب، ويعيش كل اثنان منهم تقريباً في ذات الغرفة التي يفصلها جدار “لايصل السقف، ليبقي على فتحة واسعة تتصل بالغرفة الثانية، بحيث تُسمع كل حركة، وكل همسة فيها بدون أن ترى شيئاً (92). وعند توزيع الغرف على الطلبة، يضع القائم على السكن الطالب اليهودي في الجزء الذي يمكنه فيه من التحكم من مجرى التنفس والتهوية، مبقياً الساكن الفلسطيني تحت رحمته، وهذه كفاية واضحة عن فترة الحكم العسكري التي استهل فيها الكاتب روايته، وقد رزح تحت وطأته فلسطيني الداخل المحتل لغاية العام 1966، ولم تنتهي آثاره وممارساته الأمنية مطلقاً، وإنما انتقلت بعد انتهاءه رسمياً إلى المرحلة الخفية التي يديرها جهاز الأمن العام “الشاباك” بكل عنصريته، وقد شدد فيها ولا زال يشدد الخناق على رقاب فلسطيني الداخل في كل مجالات الحياة، ويصادر منهم بمعاونة المؤسسات الأخرى، حقوقهم السياسية والقومية كافة.

يكشف لنا مصطفى في روايته أزمة الهوية بكل أبعادها التي عاشها فلسطينيو الداخل بعد النكبة، والتي لازال يعيشها البعض منهم حتى اليوم، فيظهر جلياً محاولات تشويه هوية المكان، ومحاولات ترهيب الفلسطيني من هويته الوطنية، فيشير إلى ما تتعرض له من انتهاكات متواصلة بهدف تحطيمها والغاءهما عن الخارطتين الجغرافية –السياسية، والديمغرافية-القومية، كون المشروع الصهيوني قائم على إحلال الرواية الصهيونية المخترعة في مكان الرواية الفلسطينية الأصلانية التأريخية، فالمشروع الصهيوني الاستعماري الاحلالي بني أصلاً على أنقاض الشعب الفلسطيني.
هذا الشق في أزمة الهوية ذات الحق المشروع الذي يبرز أمام الآخر، يتجلى في رفض ناصر إعطاء بطاقة هويته للمجندة التي اصطادته من بين طابور طويل من الركاب كونه عربي، والجدل الذي دار بينهما وجعل من هويته القومية وسيلة مقاومة، أدى إلى اعتقاله والإعتداء عليه بالضرب من قبل مجموعة من الجنود، بعد ما قاموا باقتياده إلى غرفة جانبية مخصصة لهذا الغرض، ليعرضوه بعد ذلك أمام ضابط مستاء من جرأته، ومن رفضه الخنوع لرغبة المجندة، وبعد تأنيب ناصر يعرض عليه بالوقاحة الصهيونية المعهودة فكرة الارتباط، وكأن شيئاً لم يحدث!

ما أن يخرج ناصر من غرفة الأمن حتى يصبح متهماً في نظر الجمهور، فالامن والاعلام المجند في دولة الاحتلال، هما اللذان يصوغان وويخلقان الرأي العام حول أي قضية كانت، والانعكاس الواقعي لهذه النتيجة، لخصه الكاتب في الحوار الاستفزازي الذي دار بين مجموع المسافرين داخل الحافلة، حول صحة أو عدم صحة تصرف الجنود مع ناصر، التصرف الذي واجه معارضة من الأقلية، واستحساناً من الأغلبية التي اعتبرته من “الاغيار” (30)، وأجازت ذلك بناء على معتقداتها الايدلوجية والعقائدية، الأمر الذي دفع ناصر إلى الخروج عن صمته والوقوف وسط الحافلة مخاطباً إياهم، بقوله:” إلى متى ستنشرون حقدكم الأعمى، متى ستفهمون أن هذه البلاد وطني، وهذا الوطن لي… اخجلوا من عنصريتكم، فعنصريتكم لن تخيفني، وحقدكم لن يثنيني، أنا الأصل هنا وأنتم الغرباء” (31).

ويتجلى توهان الهوية، في ابتلاعها، لدى سائق الحاقلة الذي اتضح انه عربي، وخشي من الكشف عن هويته إلى أن هم ناصر بالنزول من الحافلة في المحطة المركزية، فاغتنم فرصة أن يكلمه بصوت منخفض خشية أن يلحظه أحد، معبراً ل ناصر عن اعجابه بموقفه البطولي حينما تصدى لهم جميعاً لوحده.

ومن الهوية والتوهان، الى الهوية والالتباس، أي أزمة الهوية الداخلية، داخل الذات الفلسطينية بمكوناتها المختلفة، حيث تلمس شكلاً من أشكال هذا الالتباس في نظرة ناصر التعاطفية المحايدة مع العمال ذوي الملابس الرثة، الذين يسعون خلف لقمة العيشن باعتبارهم “عمال مساكين من المناطق المحتلة (51)، وكأن هذه المناطق ليست جزءاً من الوطن المحتل الذي كان يصرخ باسمه قبل قليل؟! في الوقت الذي يسارع فيه الى شراء صحيفة عبرية، ويتأبطها بغرض التمويه لكي لا تتكرر معه حادثة الصباح، رغم أنه لايجيد قراءة هذه اللغة.

أما هوية المكان، فيجسدها في المقارنة التي يرسمها بين صحراء النقب المتناسقة بطبيعتها وسكانها وروحها، وبين مشهد المدنية العصرية التي تسعى لتحدي المكان “وتتحدى الطبيعة بمحاولة بائسة لتغيير المعالم” (57)، وبهذه المحاولة تمثل عريماً ضعيفاً للصحراء، مما يعيدنا للأسطورة الصهيونية الأولى التي ادعت في بدايات القرن الماضي تخضير الصحراء الخالية من السكان، بينما كانت الحقيقة تهويدها، وتغيير هويتها، ومنذ ذلك الوقت ومعركة تهويد النقب تتحطم فوق صخرة الصمود البدوي الذي تمثل قرية “العراقيب” نموذجه الحي تشاركها في ذلك بقية القرى البدوية الغير معترف بها من سلطات الاحتلال، وتمنح النقب وجهة العربي الأصيل.

تتصاعد الأحداث في سردية لا يتسع المجال للتطرق لكل تفاصيلها، لكن حب “مريم” يلعب في قلب ناصر محركاً مهماً من محركات انخراطه في خضم العمل الكفاحي والنضالي، والدفاع عن قضايا شعبه، رغم بعض الاخطاء التي انزلق اليها، فالحب كان ولازال وسيبقى رافعة معنوية حقيقية في زمن المقاومة، كما هو مختلف الأزمنة والظروف!

وبحكم التجربة العملية والعلم يتنامى وعي ناصر، ويدرك قضاياه الوطنية بشكل أوضح، وتتطور لديه ملكة التمييز الدقيق بين ثنايا الالتباس، ويصبح قادراً على التفريق بين الوطن الذي ينتمي اليه بكل مكونات هويته التاريخية، وبين الدولة التي فرضت عليه وعلى وطنه وشعبه بفعل الاستعمار والقوة، ومنحته بطاقة هويه زرقاء رغماً عنه، وبحكم تموضعه الابستمولوجي الجديد، برسم الحدود الفاصلة بين الهوية كانتماء وطني-قومي يعتز به، وبين المواطنة كحق قانوني-مدني يناضل من أجله.

وها هو في حواره مع “راحيل” يرفض أن يساوي بين الضحية والجلاد، عندما طلبت منه أن يعرفها على عائلة من الخليل” قتل الجنود ابنها الصغير وهو يلعب ببندقية بلاستيكية للأطفال، وقام الوالدان بالتبرع بأعضاء إبنهم الشهيد لإنقاذ العديد من المرضى” (164)، الذين كان من بينهم إبن لعائلة يهودية متدينة، والأدهى من كل ذلك أن هذه أل “راحيل” تعتبر نفسها ضحية كما هو حال هذه العائلة، حيث كانت قد فقدت إبنها الجندي في الحرب، لكن ناصر يحسم موقفه من هذا الطلب وبرفضه المشاركة في هذه المسرحية قائلاً لها: “أنا سأكون هنا معهم ومنهم، وسأكون هناك منهم ومعهم” (165)، معتبراً أنها تريد أن تضمد جراحها على حساب مصابهم!!

تبلغ الرواية ذروتها مع شدة الألم الذي يجتاح ضرس “رامي”، مساء الجمعة، وبما أن الحياة عند اليهود معطلة صبيحة يوم السبت، وألم “رامي” يتفاقم، ولم يتوقف، يقترح عليه “ناصر” أن يصطحبه برفقة صديقه أحمد للعلاج في غزة، يوافق “رامي” تحت وطأة الألم رغم الهلع الذي دب في أوصاله من فكرة العودة إلى المكان الذي خدم فيه كجندي ضمن جيش الاحتلال.

عند وصولهم إلى غزة وجدوا أنها تعج بالمظاهرات الساخطة على قرار “السادات” زيارة دولة الاحتلال، ونيته القاء خطاب في جامعة بئر السبع، هناك استقبلهم “صقر أبوشباك” صديق أحمد، وأرسل “رامي” مع أحد العاملين لديه، إلى عيادة طبيب الأسنان، في هذه الأثناء تندلع مواجهات بين قوات الاحتلال والمتظاهرين، مما يسفر عن استشهاد شابن وإصابة عشرة آخرين، واعتقال خمسة مطلوبين، فيقرر “أبوشباك” احتجاز “رامي” دون علمه، ويخبئه في بيت برفقة مجموعة من الشباب بحجة حمايته، ولحظة اعلامه ل “ناصر” بالأمر، يستشيط ناصر غضباً من هذا التصرف الطائش والخطير، ويرفضه، إلا أن “أبوشباك” يصر على رأيه مبرراً ذلك بأنه يريد إجراء عملية تبادل مقابل المطلوبين الذين تم أسرهم.

يستميت ناصر في الدفاع عن موقفه الرافض للغدر، ويصر على إطلاق سراح “رامي” الذي دخل الى غزة كصديق، وبرفقة أصدقاء، وتحت حمايتهم، أو أن يتم احتجازه معه، وبعد جدل حاد يوافق “أبوشباك” على إطلاق سراح “رامي” مقابل أن يحمل “ناصر” معه حقيبة متفجرات ليضعها في طريق الرئيس “السادات” يوم زيارته للجامعة، يوافق “ناصر” مكرهاً ومرغماً على هذا الحل، بينما يضمر في قرارة نفسه أنه قادر على التخلص من المتفجرات ما أن يتجاوز “الحدود بين المدينتين” (194)، ومعه حق في ذلك لأن المقاومة قناعة ذاتية وليست ابتزاز خارجي!

هنا يتجسد الشكل الأقسى مرارة من أشكال أزمة الهوية الداخلية “التوهان المشوه”، حيث يتجلى المشهد الروائي بكل وضوح، على شكل جرح نازف في قلب هويتنا الوطنية، جرح صنعه الاحتلال، ومؤسسته الأمنية بوعي تام، من أجل تدمير النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وضرب وحدة الشعب، والقضاء على روايته التاريخية، وبكل أسف تم التعاطي مع هذا “التوهان المشوه” من قبل البعض منا بتوجيهات أسياده، والبعض الآخر بجهل هدام، والبعض الواع بسياسات غبية وعجفاء، وفي كل الحالات بقيت النتيجة واحدة، والجرح نازف، والهوية متشظية، ففي الداخل الفلسطيني المحتل، لايوجد أبناء الدولة، ولا عرب الشمينت، ولا عرب اسرائيل. يوجد الفلسطينيون العرب، اصحاب الوطن الاصلانيين، وشهادة صك الملكية لفلسطين التاريخية المكتوبة من دم ولحم والأمل في تصويب التوهان وعلاج التشوهات منوط بجيل الشباب، وبوعيهم الخلاق، وتعاونهم المشترك، فهذا الجيل هو القادر على اصلاح ما أفسده العطار وما أفسده الدهر!!
ولكي نضع أيدينا على هذا الجرح، “التوهان المشوه”، كما شخصه لنا مصطفى عبدالفتاح، في هذا العمل الأدبي الرائع، دعونا نستعرض بعضاً من الحوار الذي دار بين “صقر أبوشباك” وبين “ناصر الغريب”:- (193-194)

أنتم تتصرفون مثلهم، وتعيشون مثلهم، أنتم لايهمكم غير أنفسكم، أصبحتم صهاينة، نسيتم قضيتنا، وتدافعون عنهم.

نحن عندكم صهاينة، ونحن عندهم عرب ارهابيون؟ على ما يبدو نحن ضائعون بينكم وبينهم، برغم أننا الجذر الأقوى المتمسك بكل ذرة من ذرات تراب الوطن، نعيش فيه ويعيش فينا.

نحن شعب واحد، وعليكم أن تقفوا إلى جانبنا.

نحن شعب واحد، ولنا خصوصيتنا وطريقنا بالنضال، نحن من بقي في أرضه، ونضالنا البقاء على أرضنا.
مجرد القبول بمبدأ النقاش الداخلي على قاعدة “نحن” “وانتم”، بناء على مكان السكن فوق تراب الوطن الواحد، يعني تشظي الهوية وتحطيم الوحدة الوطنية. وبكل أسف يمكننا القول بأن نمرة الضفة وغزة والقدس والداخل، والعائد واللاجئ والبدوي والمدني والشتات، وغيرها من النعرات الهوياتية القاتلة، حاضرة في ثقافتنا بشكل ملموس، وهناك من يغذيها لحسابات قبلية وأحياناً سياسية مقيتة، مع رفضنا التام للأخذ بالتصميم الخطير والمدمر.

في النهاية يتم اعتقال ناصر، ويتعرض للتحقيق والاهانة، ويوم محاكمته يتجمع اصدقاءه من عرب ويهود في قاعة المحكمة للتضامن معه، والدفاع عنه، والمطالبة بحريته، غير أنه يحاكم ويزج به في السجن، لكن السجن يتقزم أمام تعاهده ومريم على اكمال حلمهما!!

ان القيمة الادبية لهذه الرواية، والمكانة التي تحتلها في تأريخ مرحلة مهمة من مراحل تبلور الهوية الوطنية في الداخل المحتل، تثري التراث الفكري، وتضيء على التجربة الانسانية الفلسطينية في واحدة من أهم محطاتها، محطة يوم الأرض الخالد كونها ذاكرة تاريخية لبدايات الوعي بالذات، ففي يوم الأرض مات الخوف، وولدت الهوية الوطنية، ومعها ولد الفلسطيني الجديد، القادر على التحدي والمواجهة.

كما أن الارتجاجات التي أحدثها يوم الأرض في الوعي الفلسطيني، امتدت مساحتها لتطال الوعي القومي الذي قرر على المستوى الرسمي في إطار جامعة الدول العربية إدانة وتجريم هذا البقاء، والتشبث بأرض الوطن حيث وصف هذه الاقلية بالخيانة، وكذلك الوعي الدولي الذي كان لايعلم عنها شيئاً، وان علم لايعترف بها أو يتجاهل وجودها.
أعتقد أنه كان من الأفضل ل مصطفى أن يعالج حالة الالتباس في التمييز بين خصوصية النضال الفلسطيني في الداخل المحتل، واحترام من يتبنى هذا التوجه، بكل أدواته الكفاحية الخاصة، وبين حق الفرد في مقاومة الاحتلال، واحترام خياراته الأخرى، لأن الاستعمار الصهيوني للوطن الفلسطيني، كان ولايزال وسيبقى استعماراً أجنبياً فرضه الاحتلال العالمي في موازين القوى إلى جانب أن مصطلح الخصوصية يكتنفه الكثير من الغموض، مالم تحدد معالمه بشكل واضح، حتى لايبقى منفذاً فضفاضاً للتهرب من تحمل المسؤوليات الوطنية والتاريخية وخاصة وان التجربة اثبتت لنا جميعاً بأن الفراغ الناجم عن غياب الكفاح والمقاومة، تملؤه الاستكانة والخنوع.

ان الحِجاج الذي يلجأ الى استخدامه مصطفى، يتجاهل شرط المقابلة، الذي يمنح تصوراته التوازن المطلوب، وبالتالي تذوي حجته، ويضحضها الواقع الملموس عندما يتعلق الأمر بمفهوم النضال المشترك، فالشواهد التاريخية تؤكد بما لايدع مجالاً للشك، أن مساحة هذا النضال تتقلص بإطراد بدلاً من أن تتمدد، وذلك ببساطة متناهية، مرتبط بطبيعة الحركة الصهيونية وكل مخرجاتها من أحزاب سياسية مختلفة، سواء أكانت يسارية أم يمينية، فهي طبيعه عنصرية اقصائية تقوم على عنصر التفوق والفوقية في علاقتها مع الآخر الفلسطيني، وان اعترفت له بشيء فهي تعترف له جزئيا بالحقوق المدنية، ولا تقر بان الداخل الفلسطيني محتل، بكل مدنه وقراه التاريخية، وإنما تُجاري الواقع انطلاقاً من مبدأ ضمان إستمرار يهودية الدولة.

إن فقدان الوطن، ليس كفقدان شخص عزيز، فالانسان الذي يموت تبقى ذكراه الطيبة، ويختفي ألم فقدانه بمرور الزمن، لكن الوطن لايموت حتى وإن تم فقدانه، بل يزداد ألم الفقدان ويبقى على قيد الحياة، يكبر ويكبر، ويتوالد مع توالد الاجيال، ولايزول هذا الالم إلا بعودة الوطن وتحرره، لذلك يعيش الاحتلال في وعي، ويسعى دائماً إلى تحطيم إدارة الشعب المُستعمر، وإن لم يستطع، وهو لن يستطيع، يعمل على تطويعها واضعافها من خلال ضرب وحدتها الداخلية، ولولا البقية الباقية من شعبنا الفلسطيني في الداخل المحتل، البقية التي شكلت بروحها الشرنقة الحامية لهوية وطننا الواحد، وثبتت بوجودها روايتنا التاريخية، لكانت قضيتنا الوطنية في مهب الريح وفق المعطيات الراهنة.

ان الوجود الفلسطيني في الداخل المحتل هو شهادة اللاجئين الحقيقية لملكية الأرض الفلسطينية وبطاقة العودة التي لا تمحوها كل المؤامرات الصهيو-امريكية.

وفي النهاية أقول: لو كانت المسافة التي تفصل بيننا وبينهم مجرد جدار لتمكنا من تجاوزه قبل عقود خلت، ولكنها مسافة مصنوعة من “نكبة” ومن “تطهير عرقي” ومن “عنصرية” ومن احتلال، وظلم، وقهر، واقتلاح، ترافقنا منذ لحظة الولادة حتى ولوج القبر!!

بصراحة، انها رواية ممتعة، وجديرة بالقراءة، وترفع البطاقة الحمراء في وجه كل من يعبث بوحدة الشعب الفلسطيني أو يحاول المساس بهويته الوطنية. شكراً لمصطفى عبدالفتاح، ابن كوكب ابوالهيجا، على هذا العمل الرائع، وعلى نجاحه في إثارة إشكالية الهوية والخصوصية لفلسطيني الداخل المحتل بصورة واقعية، تلامس الروح والوجدان.