غير مصنف, سياسية و اقتصادية, مراجعات لكتب و قضايا اجتماعية

ياسر عرفات – حياته كما ارادها

عرفات،
ليس مع الأكثرية
وليس مع الأقلية
عرفات – حياته كما أرادها
أحمد عبد الرحمن

الفصل العشرون: ويواصل ياسر عرفات جهوده على أكثر من صعيد لتقديم الأجوبة السياسية التي لا مناص منها على الشروط الأمريكية المسبقة لبدء الحوار مع منظمة التحرير، وبالطبع لا يريد أن يقدم أجوبته قبل أن يتوصل إلى خطة سياسية متفق عليها مع شركائه في منظمة التحرير، ولأجل هذا الغرض لا بد من دعوة المجلس الوطني إلى دورة جديدة، ودخلت الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر التاريخ، على أنها دورة الانتفاضة ودورة إعلان الاستقلال الوطني وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وقد تناولت قرارات المجلس قضيتين شائكتين الأولى قرار 242 وقبوله كأساس للمفاوضات، والثانية الاعتراف غير المباشر بحق إسرائيل في الوجود الوارد ضمناً في إعلان الاستقلال، بالإضافة إلى إدانة الإرهاب سواء كان إرهاب دولة أو أفراد أو جماعات. ومنذ الدورة التاسعة عشرة في عام 1988 يعتبر يوم 15 تشرين ثاني/ نوفمبر من كل عام يوم عطلة رسمية، فهو يوم إعلان الاستقلال وقيام الدولة، دولة فلسطين المستقلة.

الأوساط الأمريكية اعتبرت القرارات الصادرة عن المجلس ومضمون إعلان الاستقلال خطوات إيجابية مشجعة ولكنها ليست كافية، وراح أبو عمار يعزز موقفه التفاوضي بهذا السيل المتدفق من الاعترافات العالمية بالدولة الفلسطينية التي أعلنها المجلس الوطني، إنه يرسل السفراء للدول ويستقبل السفراء الأجانب كما لو أن الدولة أقيمت فعلاً على أرض فلسطين، بعد أن انتخبه المجلس المركزي (نيسان 1989) رئيساً لدولة فلسطين. إلا أن كل هذه الخطوات والقرارات في المجلس الوطني لم تغير كثيراً في الموقف الأمريكي، وبالطبع ما يحدث هو مفاوضات غير مباشرة بين الإدارة الأمريكية وبين أبو عمار، الذي يريد مقابل إعلان قبوله بالشروط الأمريكية أن يضمن بدورة تحقيق الاعتراف الأمريكي بالمنظمة وبحق تقرير المصير وإقامة الدولة، وفي ديسمبر/كانون أول 1988 رفضت الإدارة الأمريكية منح تأشيرة له لإلقاء خطابه في الأمم المتحدة في نيويورك، وقررت الهيئة الدولية بأغلبية كاسحة أن تتحدى هذا القرار الأمريكي, الذي يحمل البصمات الإسرائيلية واللوبي الصهيوني في أمريكا، وتقرر أن تعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة جلستها الخاصة للاستماع إلى أبو عمار في جنيف يوم 14 ديسمبر كانون ثاني1988. وبجهود (أندرسون) وزير خارجية السويد كان من المقرر بعد إلقاء الخطاب أن يعقد الجنرال (ولترز) المندوب الأمريكي اجتماعاً مع أبو عمار في جنيف، وقال أندرسون في حينه أن (ولترز) يمثل العقلية الأمريكية الحرفية، في سوق التجارة، كان لديه ورقة وعليها بنود مرقمة وإذا سمعها على لسان عرفات فسوف يقوم ويصافحه ويجتمع معه، أما خطاب أبو عمار فقد لقي الترحيب من الأسرة الدولية ما عدا إسرائيل وأمريكا، ولم يقبل الأمريكيون تفسيرات أندرسون للخطاب، إنها لحظة صعبة ومصيرية في حياة ياسر عرفات وهو يتحدث في مبنى عصبة الأمم في جنيف، التي فرضت الانتداب البريطاني على فلسطين وضمنته -وهذا الأسوأ- وعد بلفور المشئوم لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وعلى الرغم من الألم الذي يعتصر قلبه، إلا أن إحساسه بالمسؤولية التاريخية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من وطنه فلسطين جعله يقطع النهر إلى الضفة الأخرى، ويعلن استعداده لتلاوة نص قديم وجديد أعده أندرسون مع ريتشارد مورفي والفريق الذي بقي يعمل مع أبو عمار، بعد أن اختفى كبار أعضاء الوفد الفلسطيني في غرفهم ولاذوا بالصمت أمام رهبة اللحظة المصيرية التي لامناص منها، إنها لحظة الاعتراف الفلسطيني بوجود دولة إسرائيل، وبدون هذا الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، فلن يكون هناك اعتراف أمريكي بالمنظمة أو بحقوق الشعب الفلسطيني، أو بدء الحوار بين الإدارة الأمريكية ومنظمة التحرير. وقضى الليلة ساهراً يقلب الأمر الخطير ويجري اتصالاته مع الملوك والرؤساء والأصدقاء يسأل النصيحة.

إنه الزمن الأمريكي الذي يلقي بظله على السياسات الدولية قاطبة، فلم يسمع أبو عمار أبداً كلمة من أي مسئول عربي أو دولي له وزن ويتحمل المسؤولية، يقول له فيها أن هذه الشروط الأمريكية المسبقة شروط مجحفة وعليك رفضها، الكل قال له: «ليس أمامك من خيار آخر، وأنت تعلم أن أصل المشكلة موجود في أمريكا قبل أن يكون في إسرائيل، وإسرائيل تذبح شعبك وتستوطن وطنك بدعم أمريكي صارخ وسافر، وإذا استطعت أن تقيم قناة اتصال ولو ثانوية مع الإدارة الأمريكية فإنك تكون قد أحرزت تقدماً لمصلحة شعبك». وصبيحة اليوم التالي وقبل المؤتمر الصحفي جاءه مخضرمون في السياسة الدولية، وقالوا له: «لا تدع هذه الفرصة تفلت من يدك» والعالم يصدق عنكم ما قاله أبا ايبان بأن الفلسطينيين بارعون في إضاعة الفرص وليس في اغتنامها ونحن نعلم أن الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود أمر صعب عليك وعلى شعبك، ولكن ما هو البديل لديك؟ كان أبو عمار يصغي لكل كلمة بانتباه شديد، وفي بعض الحالات كان يطلب من أحد مساعديه أن يعيد على مسامعه ما قاله أحدهم بعد مغادرته. أدرك بعد ذلك أن هذه الساعة هي ساعة الحقيقة, وليس لديه هوامش للمناورة والوقت ضيق، والعالم ينتظر كلمته التي قد تفتح الباب أمام السلام والأمن في الشرق الأوسط، وتهيئ فرصة جديدة للشعب الفلسطيني ليستعيد بعضاً من أرضه التاريخية ويقيم دولته فوقها.

قرأ أبو عمار النص الصعب مرة ومرات وكم حاول أن يشطب كلمة أو نقطة أو فاصلة في هذا النص الخطير, ولكن دون جدوى، وأمام أكثر من ألف صحفي في قاعة المؤتمرات في مقر عصبة الأمم, كان عليه أن يقرأ النص الذي يقبله الأمريكيون, وقبل أن يدخل القاعة توقف قليلاً، وكان طوال الوقت لا يتكلم أبداً، وقال لي وكانت الورقة الصغيرة في جيبي، أن أعيد عليه قراءة النص ربما للمرة الألف، وبعد أن انتهيت من القراءة قال أبو عمار: «أليس من الأفضل لو ربطنا الجمل ببعضها، وإن هذه النقطة أو الفاصلة لا ضرورة لها»؟ وأدركت المعاناة والألم في وجه أبو عمار، فقلت له: «السؤال اليوم هو من أين سنأخذ قرار الدولة وقرار الاعتراف بالمنظمة والتفاوض معها، أليس من أمريكا»؟ صمت أبو عمار ولم يجب, إلا أنه هز رأسه بالموافقة, وتابع طريقه بخطوات بطيئة إلى القاعة الكبرى في عصبة الأمم, وقرأ النص المعد بارتباك شديد, وأجاب على سؤال أو سؤالين, ولم يستغرق المؤتمر الصحفي عشر دقائق، وغادر القاعة بسرعة غير عادية وتوجه إلى مطار جنيف. وفي برلين استقبل بحفاوة غير عادية من قبل الرئيس أريك هونيكر، وبعد ساعات قليلة أعلن جورج شولتز فتح الحوار بين الإدارة الأمريكية ومنظمة التحرير الفلسطينية في تونس, حيث يتولى السفير الأمريكي في تونس بيلتيرو إدارة الحوار مع وفد فلسطيني شكله أبو عمار في نفس الليلة من ياسر عبد ربه وعبد اللطيف أبو حجلة وحكم بلعاوي، ويمتد الحوار أشهراً عدة حتى قررت واشنطن وقفه بعد عملية فدائية حين رفض أبو عمار الإملاءات الأمريكية.

وفجأة يقع الزلزال السوفيتي على يد غورباتشوف، الكتلة الاشتراكية تنهار، وحلف وارسو يزول من الوجود، وواقع القوتين الأعظم يختفي, لتسيطر على مقدرات العالم والقرار الدولي قوة أعظم واحدة هي الولايات المتحدة الأمريكية، وتزحف الرأسمالية العالمية على مواقع الاشتراكية لتزيلها من الوجود, وثورة أكتوبر الاشتراكية تصبح أثراً بعد حين، وذلك السحر التاريخي لكارل ماركس وإنجلز ولينين وستالين وتروتسكي يتلاشى في لمح البصر، والنجمة الحمراء فوق الكرملين لا تبقى مكانها، إن علم روسيا القيصرية, يعود بعد غياب طويل, ليرفرف فوق قصور الكرملين, وهكذا انتهت الحرب الباردة بين القوتين الأعظم, بهزيمة المعسكر الاشتراكي, وإعادة توحيد ألمانيا في دولة واحدة, تقود أوروبا كقوة اقتصادية, وظهرت نظريات في الشرق الأوسط, تقلل من أهمية إسرائيل للقطب الأعظم الجديد، فالحرب الباردة قد انتهت, وشبح الاشتراكية قد زال عن منابع النفط, والخوف القديم من زحف الدب الروسي للمياه الدافئة لم يعد قائماً وإسرائيل تحتل اليوم موقعاً ثانوياً في الإستراتيجية العالمية للولايات المتحدة, ويمكن بالتالي أن يظهر موقف أمريكي أكثر اتزانا وموضوعية من الصراع العربي – الإسرائيلي، ومن القضية الفلسطينية، كارثة هذه التي يواجهها ياسر عرفات، إلا أن الكارثة تقع يوم الثاني من آب 1990 باحتلال العراق للكويت، وأبو عمار ومنذ نهاية معركة طرابلس, يتخذ من بغداد قاعدته ومركز قيادته، ويعرف أي عاقل إن احتلال الكويت وهي دولة معترف بها، ودولة بترولية هامة جداً لأمريكا، لا يمكن أن تقبل به القوة الأعظم الوحيدة في العالم، كذلك فإن دول الجامعة العربية لن تقبل به بل ستقف ضده، أما أبو عمار قدم حـلاً عربياً, وطالب بتشكيل قوة عربية، لإخراج القوات العراقية من الكويت, ولكن صوته وموقفه ضاع في زحمة الأحداث التي انتهت بتحرير الكويت واحتلال جنوب وشمال العراق وتدمير جيشه.

وفي الليلة التي سبقت إعلان الحرب (15 كانون الثاني 1991)، جاءه الخبر الصاعق من تونس باغتيال ساعده الأيمن والرجل القوي «أبو إياد ورفيقيه أبو الهول وأبو محمد» وغادر بغداد عبر تركيا واليونان وإيطاليا، بعد أن أغلقت الأجواء العربية في وجه الطيران العراقي، وفي الرحلة الطويلة إلى تونس وكنت معه طلب مني أن أعيد ما سمعته من لاجئ سياسي في بغداد عن تهجير الفلسطينيين من الكويت بعد أن أصبحت الولاية 19 في العراق، وكذلك عن الربط بين الانسحاب العراقي من الكويت والانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية والعربية. صمت أبو عمار برهة من الوقت ثم قال: «نحن بين نارين» وأضاف: «في كل حدث في هذه المنطقة، يلقون علينا اللوم، وكل عاقل يعلم أنه لا علاقة لنا بقرار صدام باحتلال الكويت، كما لم يكن لنا علاقة أو علم بقرار السادات زيارة القدس في عام 1977، ولكن ما العمل؟ إن الأرض العربية تضيق بنا وبقضيتنا، ولم يبق أمامنا إلا أن نبحث عن مركبة فضائية تحملنا إلى أحد الكواكب لنقيم قيادتنا عليها للعمل من أجل استعادة وطننا فلسطين من المريخ».

قبل يوم واحد من مغادرته بغداد قام أبو عمار وكنت برفقته بزيارة خاطفة إلى عمان، وكان يفكر في البقاء في الأردن أثناء الحرب الوشيكة، وفوجئ بالملك حسين بلباسه العسكري يستقبله في المطار، ويجري معه محادثات سريعة في الصالة الملكية بحضور زيد الرفاعي، وسرعان ما أمر أبو عمار بتجهيز طائرته للعودة إلى بغداد.

في تونس وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه، فالقيادة حائرة بين موقفين، موقف الأقلية وموقف الأكثرية، فقد كان دعاة الابتعاد عن الموقف العراقي يمثلون أقلية في القيادة، أما الأكثرية فكانت تقف مع العراق، وتدين تحالف حفر الباطن، أما أبو عمار فهو ليس مع الأقلية وليس مع الأكثرية، وأزعجه الاستقطاب في القيادة، وراح يؤسس لموقفه الخاص النابع من قناعاته وتجاربه، إنه ليس مع تحالف حفر الباطن، وليس مع احتلال الكويت، وتمسك بمبادراته الكثيرة سواء لتشكيل قوة عربية أو انسحاب الجيش العراقي إلى الحدود بين البلدين، وفوجئ أعضاء القيادة بهذا الموقف منه وهو القادم من بغداد، وطالب الجميع بعدم التطرف في إصدار المواقف والتصريحات، وقال: «شعبكم هو الذي يدفع الثمن، نحن بين نارين»، وبالفعل سرعان ما انتهت الحرب ودفع الشعب الفلسطيني الثمن الباهظ بهجرة ثالثة من الكويت وتعرضت القيادة لعزلة شديدة من عواصم القرار العربي واعتبرتها دولة الكويت من مجموعة دول «الضد» ونكلت بالفلسطينيين وطردت عشرات الآلاف منهم، والمقصود بدول الضد، الدول العربية التي صوتت في القمة ضد الموافقة على التدخل العسكري الأمريكي.

بدأ جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي بعد أقل من شهرين من انتهاء الحرب جولاته في الشرق الأوسط لتحريك عملية السلام، كما سبق وأعلن الرئيس بوش بأن الإدارة الأمريكية ستعمل على عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط يحضره أطراف النزاع وكذلك الفلسطينيون، ويبدأ أبو عمار معركته لانتزاع التمثيل الفلسطيني على المستوى الدولي، ولم يتردد بيكر في الإعلان صراحة، أن المنظمة ليست هي المقصودة ولن تدعى لحضور المؤتمر، بعد أن وقفت المنظمة إلى جانب العراق وضد تحالف حفر الباطن. وشامير يرفض رفضاَ قاطعاً مجرد الإشارة إلى منظمة التحرير الفلسطينية «لأنها منظمة إرهابية ومجموعة قتلة»، وأنه يوافق على مشاركة شخصيات مستقلة ضمن الوفد الأردني-الفلسطيني المشترك، ويرفض وفداً مستقلاً يمثل الفلسطينيين، وتلقت المنظمة ضربة سياسية تنتقص من تمثيلها للشعب الفلسطيني ومن قرار قمة الرباط، حين التقى بيكر بعدد من وزراء الخارجية العرب، وسألهم عن التمثيل الفلسطيني في المؤتمر الدولي للسلام، وجاء الجواب على لسان فاروق الشرع بالموافقة على استبعاد المنظمة والاكتفاء بشخصيات مستقلة ضمن الوفد الأردني. وقال الشرع يومها: «كل واحد يخلع شوكه بيده»، وحين وصل بيكر إلى القدس للبحث عن الشخصيات الفلسطينية المستقلة للمشاركة في الوفد المشترك، كان أبو عمار يعقد في تونس اجتماعات للقيادة في الصباح والمساء، ويجري ويتلقى الاتصالات، وارتفعت أصوات تنادي بمقاطعة بيكر والتوجيه للشخصيات في الداخل بعدم لقائه، وأن من أراد بحث الشأن الفلسطيني فعليه أن يطرق باب منظمة التحرير الفلسطينية، في ذلك الوقت كانت الموازين قد اختلت تماماً، فالعراق خرج من المعادلة، وحلفاء «حفر الباطن» يحملون ضغينة لا تنتهي ضد أبو عمار بسبب قضية العراق والكويت، وحين طلب بيكر من هذه الجهات تسهيل تشكيل الوفد بعيداً عن المنظمة لأن هناك (فيتو) من شامير لا أحد يقوى على مواجهته، كانت الاتصالات مع المنظمة تجري على أدنى مستوى عبر السفراء والمندوبين في الجامعة العربية، هذا الحصار والتضييق على المنظمة ورئيسها لا يسمح له بإضاعة الفرصة الممكنة لمشاركة الممثلين الفلسطينيين في أول مؤتمر دولي للسلام، وفي جلسة صاخبة للقيادة كان هناك شبه إجماع على رفض اللقاء مع بيكر، وادعى البعض أن رفض المنظمة للمشاركة سيؤدي إلى رفض عربي، وهنا جاء دور أبو عمار ليوضح أنه من عام 1948 وحتى عام 1977، عقدت الأطراف العربية اتفاقات هدنة ومعاهدات سلام مع إسرائيل في غياب الطرف الفلسطيني وحتى على حسابه، وهذا واقع لا يحتاج إلى برهان، «ونحن لا نستطيع أن نبقى وحدنا في مواجهة قرار دولي، إن أمريكا والإتحاد السوفيتي متفقان على عقد مؤتمر دولي للسلام، فهل نقول لا للقوتين الأعظم»؟ انتهت الجلسة بعد أن أصبح أبو عمار واثقاً أن قرار الموافقة على لقاء بيكر من قبل الشخصيات الفلسطينية في القدس لم يعد موضع اعتراض من أعضاء القيادة.
ومع تسارع الأحداث في الشرق الأوسط والجولات المكوكية لجميس بيكر، كان لابد من عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، مصدر الشرعية الوطنية والذي تشارك فيه جميع القوى والفصائل والفعاليات المختلفة، وبالفعل التأمت الدورة العشرون للمجلس في الجزائر في أيلول 1991، وبالطبع فجدول الأعمال هو المشاركة الفلسطينية في مؤتمر دولي للسلام وكيفية هذه المشاركة، وكان أبو عمار قد أعلن نوعاً من حالة الطوارئ في القيادة، وطلب من الجميع البقاء إلى جانبه في تونس، وبطريقته المعروفة في تهيئة أعضاء القيادة لقرار خطير وتاريخي، يعقد يومياً اجتماعات موسعة ومضيقة، ومع الفصائل وقادتها على انفراد ثم مع بعض الأطراف في الفصائل الأقرب إلى موقفه، والموضوع الذي يطرحه يعيد طرحه والتأكيد عليه مئات المرات، ولا يمل ولا يكف عن تكرار أقواله حتى لنفس الشخص صباحاً ومساءً، ولديه رصيد من البراهين لا ينتهي والأمثلة والعبر التاريخية والدروس المستفادة من تجارب الأمم والشعوب، والهدف الذي يسعى إليه هو صدور قرار من المجلس الوطني الفلسطيني بالموافقة على المشاركة الفلسطينية في مؤتمر مدريد للسلام، وهذا الجهد الذي يبذله بطاقته الغريبة ليس هدفه الحصول على نسبة أعلى من الأصوات، فهو دائماً يعرف كيف يضمن الأغلبية، «فهذه مدرسة اتحاد الطلاب» على حد قوله، إنه في الواقع يريد الإجماع الوطني، وأكثر ما يزعجه أن يجد المجلس وقد تخلى عن الإجماع وبدأ يأخذ قراراته بالأغلبية والأقلية، وإذا اضطرته ظروف قاهرة للتصويت، فإنه لا يترك المعارضين وشأنهم بل يواصل جهوده معهم حتى لا يقع شرخ في الساحة الفلسطينية «فالمتربصون بنا كثيرون» ولكن للضرورات أحكام والوقت ضيق، فمؤتمر السلام كما هو مقترح يجتمع في نهاية الشهر القادم، شهر تشرين أول/ أكتوبر 1991، ويرأسه بوش وغورباتشوف ولا يجد أمامه من حل لمسألة المشاركة من عدمها غير إجراء التصويت في المجلس الوطني، وجرى التصويت فعلاً (256) مع المشاركة و(68) ضد و (14) امتنعوا عن التصويت، إنه ليس تصويتا أو اعتراض فصائل بل أعضاء في المجلس الوطني لهم الحق في إبداء رأيهم، موافقة أو اعتراضاً، ولكن هذه المرة لا أحد يغادر المجلس محتجاً أو مستقيلاً أو ساعياً لعمل تكتل مضاد ضد قرار الشرعية الوطنية، إنه تطور سياسي هام في الحياة السياسية الفلسطينية، وقد فوض المجلس أبو عمار التفاوض مع الجهات المعنية لكيفية المشاركة في مؤتمر السلام، واجتمع المجلس المركزي في تونس ووافق بدوره على البروتوكول الأردني – الفلسطيني لتشكيل الوفد المشترك، وكذلك على تشكيل الوفد الفلسطيني في الوفد المشترك، وبعد هذه القرارات التاريخية عاد أبو عمار إلى الأضواء بسرعة فلكية وفتحت أمامه أبواب العواصم العربية من جديد فزار عمان ودمشق والقاهرة، ويمكن القول إنه طوى صفحة من صفحات مرارة حرب الخليج مع مصر وسوريا، وبدأت السعودية تتحرك لصالحه فحولت للصندوق القومي بعض المبالغ من اقتطاعات رواتب العاملين الفلسطينيين، والأوروبيون بدأوا يتحركون لعقد لقاءات معه في تونس، بعد أن كانوا قرروا مقاطعته وعدم لقائه بسبب حرب الخليج وتداعياتها.

وفي الداخل انتفاضة متصاعدة وفرحة كبرى بالقرارات السياسية الهامة الصادرة عن المجلس الوطني، وقرار المشاركة وقرار تشكيل الوفد من شخصيات وطنية في الأراضي المحتلة، وليس أسعد على قلب أبو عمار من هذا التناغم في الأداء الفلسطيني، ويكرس كل وقته لتعزيز الدور الفلسطيني القادم في مؤتمر السلام، وقبل موعد اللقاء الحاسم مع بيكر كانت شخصيات الداخل تبلغه أنها لن تحضر اللقاء إلا بعد الحصول على موافقته، وبعضهم طلب موافقته الخطية وبرسالة تحمل توقيعه المعروف للجميع، وقال لهم: «كل فلسطيني يمثل المنظمة، وكل الفلسطينيين أعضاء في منظمة التحرير الفلسطينية، والقضية أمانة في أعناقكم، وعلى بركة الله».

بدأت سلسلة اللقاءات مع بيكر، وأفهم أعضاء الوفد بيكر بأنهم مفوضون من أبو عمار وردَّ بيكر قائلاً: «لا أريد أن أسمع هذا الكلام» ومن الغريب أن بيكر في مذكراته يعترف بأن أبو عمار كان صاحب القرار الأول والأخير في كل تفاصيل المشاركة وتسمية أعضاء الوفود، وأصدر بدوره كتب تكليف بتوقيعه لأعضاء الوفد للذهاب إلى مدريد ضمن الوفد الفلسطيني-الأردني المشترك. ورغم غياب المنظمة بصفتها الرسمية كممثل للشعب الفلسطيني وعدم تمثيل القدس في الوفد، والمشاركة ضمن الوفد المشترك الأردني الفلسطيني واحتمالات المستقبل من وراء هذا التشكيل، فقد أدار أبو عمار معركة المشاركة بمهارة وجدارة عكست أمام العالم مكانته القيادية والتاريخية لدى شعبه، وتمسك كافة أبناء الشعب الفلسطيني بقراره، ولا أحد يخرج عن هذا القرار، وأن المشاركة في مؤتمر مدريد تمت بقراره وبتوقيعه، ومن حيث أراد شامير إبعاد ممثل القدس عن المشاركة، في الوفد، فإن رئيس الوفد كان المرحوم فيصل الحسيني، ومن حيث أراد إبعاد المنظمة، فإن أعضاء الوفد يحملون في جيوبهم قرار أبو عمار بتشكيل الوفد، وقراراً آخر لكل واحد منهم وتكليفه بعضوية الوفد، وبدل أن يكون مؤتمر مدريد فرصة شامير للتخلص من المنظمة، جاءت النتائج مخيبة لآمال شامير، فالوفد الفلسطيني هو وفد منظمة التحرير الفلسطينية وهو وفد رسمي يلتزم بتعليمات قيادته ولديه تفويض بذلك أسوة بكل الوفود الأخرى، وجاء خطاب حيدر عبد الشافي رئيس الجانب الفلسطيني في الوفد المشترك، ليؤكد كل هذه المواقف وينتزع تقدير وإعجاب العالم بالأداء الفلسطيني الرفيع. وفي أول اختبار لاستقلالية الوفد الفلسطيني عقد في مدريد الاجتماع الأول مع الوفد الإسرائيلي لترتيب الأمور الإجرائية للمحادثات القادمة في واشنطن، أما خطاب الوفد الذي أثار إعجاب العالم فقد كان في حقيقته خطاباً عرفاتياً بامتياز، وقبل المؤتمر بوقت طويل شكل لجنة من القيادة ومن المثقفين الفلسطيني، وأحضر خبراء فلسطينيين في القانون الدولي من لندن، ومن باريس استدعى أساتذة جامعات فلسطينيين أصحاب اختصاص في قضية اللاجئين، ومن جامعة أكسفورد وهارفارد أحضر أساتذة فلسطينيين للمساهمة ولو بكلمة أو بجملة أو واقعة تاريخية، وأرهق شاعر فلسطين المبدع محمود درويش الذي يتولى إعداد الخطاب بأوراقه وملاحظاته واتصالاته التي لا تنقطع لا في الليل ولا في النهار، حتى يطمئن إلى أن خطاب فلسطين في مؤتمر مدريد للسلام يحمل للعالم المأساة الفلسطينية بكل أبعادها الإنسانية والسياسية والنضالية، ويردد على مسامع محمود درويش: «أنت شاعرنا المبدع، أبدعت إعلان الاستقلال فلسطينياً وخطاب مدريد هو إعلان الاستقلال دولياً».

موعد المؤتمر العتيد (30 أكتوبر 1991) شكل أبو عمار لجنة من المنظمة لمتابعة أعمال المؤتمر ولكن عن بعد، حيث كان أي اتصال مع وفد الداخل يشكل تهديداً للمؤتمر نفسه، ونزل وفد الداخل في فندق بعيد عن الفندق الذي نزل فيه أعضاء المنظمة، وفي تونس وضع ياسر عرفات القيادة وكافة الأجهزة في حالة استنفار على مدار الساعة لمتابعة مؤتمر مدريد، إنه يعمل ليل نهار ويطلع على كل تصريح وكل مقال في جريدة وكل اجتماع يعقد وما يصدر عنه ويؤشر عليه ويرسله لجهة الاختصاص للمتابعة ومن يراقب عمله على مدار الساعة، فإنه يعتقد دون شك أن المؤتمر سيعقد في الغرفة المجاورة لمكتبه وأنه يعد نفسه لإلقاء الخطاب بنفسه، وحتى الشيخ الفاضل حيدر عبد الشافي، كان يتلقى في منتصف الليل مكالمات مفاجئة من أبو عمار وفي أول المكالمة يعتذر عن هذا الإزعاج، فاعتذاراته مقدمة حتمية لا يتخلى عنها أبداً، مع الصغير والكبير على السواء، أما مضمون المكالمة فليس بالضرورة أن يكون أمراً ذا شأن، فلدى أبو عمار هدف آخر قد لا يخطر على بال أحد، إنه يريد لوفده المؤتمن على قضيته الوطنية أن يكون مشحوناً بالقلق والجاهزية والمتابعة والمثابرة على مدار الساعة، وهو يستطيع من صوت المتكلم ومن مضمون الكلام أن يقرر ما إذا كان التركيز ودقة الانتباه قد وصلت إلى الدرجة التي تؤدي إلى اطمئنانه بأن الشخص المكلف بالمهمة المنوطة به قد حقق نقله نوعية في وعيه وفي سلوكه وتخطى ما هو «عادي» إلى ما هو «استثنائي».

وبين تونس ومدريد بل وبين فلسطين ومدريد والشتات الفلسطيني ومدريد، ظلت خطوط الهاتف تعمل ليل نهار، إنه الحدث الأبرز في التاريخ الفلسطيني الحديث، طوى الفلسطينيون صفحة النسيان والتغييب وها هم قد عادوا إلى العالم من بابه الواسع، إن الوضع الفلسطيني قد تجاوز «نقطة اللاعودة»، وربما مخاوف أبو عمار من مصير كمصير المفتى أو الشقيري بدأت تتبدد بعد مؤتمر مدريد للسلام، إلا أنه لا يترك فرصة إلا ويغتنمها، إن وفد مدريد مدعو لمقابلة الرئيس في تونس، وتنقلهم طائرة خاصة إلى تونس، ويعودون بعد العشاء والكلام مع الرئيس إلى مدريد، دون أن يشعر المراقبون بمغادرتهم وعودتهم، كان أبو عمار يسبر أغوارهم ليكون لنفسه حصيلة من الثقة والطمأنينة تسمح له بتفويضهم في شأن يعتبره من صميم دوره، وحين يواجه في الحوار مع الوفد، بمواقف جامدة، يخشى من التصلب الذي يؤدي إلى الفشل، «ليست هكذا الحياة، الواقع شيء مختلف»، ولو قبلنا قراءة جامدة للواقع لما تقدمنا، إن الواقع في حركة دائمة والأرض تدور والبشر مسئولون عن مصيرهم وقدرهم، ولا شيء يتغير من تلقاء نفسه، «الإنسان يغير ويتغير»، ويعكس هذا المنطق ثقته المطلقة بإرادته القادرة على الفعل وإحداث التغيير الذي يسعى إليه، إنه ينفخ في الوفد المفاوض قوة روحه العنيدة، وفوجئ الجميع بهذه الشخصية القلقة المقلقة، إنه لا يستقر على حال، وهو يسعى لاقتحام المجهول الذي يرى فيه ما لا يرى.

وحين ودعه أعضاء الوفد كاد يعيد على مسامع كل واحد منهم ما كان قاله قبل قليل، إن التكرار والتكرار بعضاً من وسائل الإقناع يقدمه على أنه جديد وجديد تماماً أو أنه ينطقه للمرة الأولى، وعلى المستمع أن يظل يقظاً حتى وهو يحفظ عن ظهر قلب ما قاله. وطوال رحلة العودة إلى مدريد كنت أستمع بإصغاء شديد إلى ملاحظاتهم وتعليقاتهم واستغرابهم لأقواله وحركاته واتصالاته التي يقوم بها بنفسه أو يتلقاها من الخارج أو من ضباطه والعاملين معه، وقال أحدهم «أن لديه ذاكرة عجيبة حقاً يكتب في دفتره الصغير ويستقبل الاتصالات ويتحدث معنا ويتناول الطعام ويوزعه علينا، كل هذا في وقت واحد»، إن الوفد بعد لقائه ليس نفس الوفد قبل اللقاء، وقال أحدهم: «مستحيل على هذا الرجل أن لا يحقق ما في رأسه»، وبدأ المؤتمر العتيد أعماله وظهر وفد فلسطين يكاد يكون مستقلاً داخل القاعة، الأضواء مسلطة عليه، وأحد الأعضاء وهو صائب عريقات وضع الحطة العرفاتية الشهيرة على كتفيه، في إشارة لا يخفي مغزاها على أحد وخاصة شامير الذي هدد بمغادرة المؤتمر في تعبير عن رفضه للمنظمة ورئيسها.

وفي ليلة الخطاب الفلسطيني في مؤتمر السلام في مدريد لم ينم ياسر عرفات إلا عند الفجر، فقد وجد في الخطاب ما يستحق المراجعة، وتبين له في حينه أن الخطاب لا يحمل بصمات محمود درويش كما أمل، فقد احترم محمود الجهد الذي بذله آخرون في إعداد الخطاب واكتفى بلمسات ذات دلالة لإغناء روح الخطاب ومضمونة.

وفي الثانية صباحاً جاء صوته الغاضب المدوي يوقظني ويسألني عن الخطاب ويقول: «هذا ليس خطاباً باسم فلسطين في مؤتمر دولي، هذا موعظة أخلاقية يصلح في كنيسة وهل نحن ذاهبون إلى مدريد للبكاء ولاستدار الشفقة علينا»؟

وبعد قليل كان عدد من أعضاء الوفد قد تجمعوا، وبينهم من قدم من تونس ومن قدم من فلسطين، وبعد قراءة سريعة للخطاب، وخلال سبع ساعات متواصلة من العمل تمت صياغة الخطاب من جديد، وأبو عمار يجلس قرب الفاكس يتلقى الصفحات أولاً بأول، وعادت الورقة الأخيرة وعليها «على بركة الله» بتوقيعه، ومعنى ذلك أن الخطاب ليس موعظة أخلاقية أو دينية تصلح لكنيسة، وكل الأطياف الفلسطينية وجدت فيه ما يبدد مخاوفها من مؤتمر تغيب عنه منظمة التحرير ولا يرفع فيه علم فلسطين، وجاءت الكلمة الفصل في الخطاب بذكر اسم الرئيس عرفات وخطابه في الأمم المتحدة في عام 1974 وجملته الشهيرة «لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي»، و» الحرب تندلع من فلسطين والسلام يبدأ من فلسطين», وقطعت هذه الكلمات على لسان حيدر عبد الشافي الشك باليقين, وإن الوفد الفلسطيني هو وفد منظمة التحرير ورئيسها أبو عمار، وقد قيل قبل ذلك أن شامير سيخرج من القاعة إذا ذكر اسم عرفات, ولكنه عبر عن ضيقه بلغة جسده, وكظم غيظه وبقي جالساً في مؤتمر دولي أكبر من قدرته على تحديه.

ورغم إدانته ومقاطعته عربياً ودولياً لوقوفه إلى جانب صدام حسين والحقيقة لوقوفه ضد طلب التدخل العسكري الأمريكي، ورغم استشهاد واغتيال رجاله الأقوياء أبو جهاد وأبو إياد وأبو الهول وأبو محمد، فإنه ظل واقفاً وصامداً بشجاعة وهو يسبح ضد التيار الجارف الذي اجتاح العالم بعد الزلزال الروسي، والذي أنهى القوة العظمى الثانية، ولأن كلمته نافذة في فتح والمنظمة، فقد استطاع أن يحمي وحدة فتح والمنظمة من الرياح العاصفة التي هبت عليه في عزلته عربيا ومحاصرته ماليا، ولم يرتفع صوت فلسطيني قوي ضد سياسته وموقفه في موضوع العراق إلا بعض أصوات تقليدية من المغلوبين على أمرهم والعاملين في الكويت والسعودية, وحين وصلته العريضة التي تحمل تواقيع هؤلاء المغلوبين على أمرهم «وأسرى مصالحهم الضيقة» على حد تعبيره، لم يكترث بها وحتى حين طالب البعض بفصل الموقعين من الأطر القيادية في فتح والمنظمة قال: «لا تضخموا هذا الموضوع أكثر مما يستحق، لن يلتفت أحد إلى هذه العريضة إلا أنتم».

كان يعرف أكثر من غيره نقاط ضعفه ونقاط قوته، سواء في أزمة الانشقاق أو زيارة القاهرة أو حرب الخليج، إن نقاط قوته تكمن في علاقته مع شعبه، فليس من شخص قائد أو عادي لديه هذه القدرة الهائلة على إقامة هذه العلاقات مع كافة القطاعات الشعبية, وبهذا كان يقلب موازين القوى في المجتمع الفلسطيني, فالقوى التقليدية لها مكانتها واحترامها لكنها ليست صاحبة القرار, ولا تملك رؤيتها المسالمة بطبيعتها قاعدة شعبية عريضة يراهن عليها، والزعامات التي كان لها صدى شعبي حتى وإن كانت معارضة لسياسته ومواقفه وفرديته وتفرده في القرار, فهي لم تظهر في إطار القوى التقليدية بل في سياق الظاهرة العرفاتية, ويعود السبب الأساسي في انكماش القوى التقليدية وتخليها عن دورها المستقل لصالح الانضواء في إطار الظاهرة العرفاتية، إلى كون ياسر عرفات لم يصل إلى القيادة والزعامة عن طريق الجاه والحسب والنسب وسطوة المال, لقد وصل إلى الزعامة حين أدرك ببعد نظره أن القوى التقليدية وأساليبها لم تعد قادرة على العمل من أجل فلسطين، ولا بد بالتالي من التفكير في طريق آخر وأسلوب آخر وقوة جديدة تملأ فراغ الساحة بغياب القوى التقليدية وانحسار تأثيرها بالكامل في أوساط الشعب الفلسطيني، بل يمكن القول إنها توارت تماماً عن المسرح منذ عام 1948 وحتى منتصف عام 1964، حين أقيمت المنظمة بقرار من القمة العربية وبنفوذ عبد الناصر في نفس الفترة التي أعلن فيها أبو عمار الكفاح المسلح، وهذا الشكل العنيف من النضال والكفاح لا يستهوي بطبيعته القوى التقليدية, إن هذا التجاوز والتخطي الذي أنجزه نهج أبو عمار قد ترافق مع ظرف موضوعي أعقب هزيمة حزيران، وإن كانت نواته الأولى قد أسسها أبو عمار قبل عشر سنوات، وما كان لهذه النواة أن تفرض نفسها في الواقع الفلسطيني والعربي وحتى الدولي إلا بعد وقوع كارثة الهزيمة في حزيران 1967.

إن ظهور أبو عمار وحركة فتح قد جاء ليملأ الفراغ القيادي الحاصل منذ عام 1948 بانهيار القيادة التقليدية وتشتت أفرادها وانحيازهم للنظام العربي، وأما من بقي منهم على إيمانه بفلسطين والدور القيادي للفلسطينيين في شأن قضيتهم فقد فرضت عليه الإقامة الجبرية وانزوى في القاهرة (المفتي وأحمد حلمي) بلا حول ولا قوة، ومع وقوع النكبة والتشرد لم يعد هناك من يراهن على برنامج القوى التقليدية وأما ملء الفراغ القيادي بقيام منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة أحمد الشقيري فلم يكن كافياً «فكعب أخيل» العربي يشل المنظمة رغم جدارة وقدرة رئيسها أحمد الشقيري، فالمنظمة كما قررتها القمة العربية إطار سياسي لعدم نسيان القضية, أما الشأن العسكري فهو مربوط بالدول العربية، وكان في هذا القيد نهاية الآمال المعقودة على المنظمة.

أما أبو عمار فينفذ عمليات فدائية داخل إسرائيل ويقف بشجاعة في دائرة الفعل «وينادي باللقاء على أرض المعركة»، ويضع الجميع خلفه سواء كانت قوى تقليدية أو رسمية أو تقدمية، فليس لهذه القوى وخاصة قبل حزيران برامج فلسطينية يمكن الوثوق بها، وحين تعرض للسجن والاعتقال والملاحقة بين عامي 1965، 1967 وقتل وعذب بعض رجاله حتى الموت، لم تنته الحركة التي يقودها، فهي في الأساس حركة سياسية ولها جناحها العسكري، والذين اعتقدوا أنها سرعان ما تموت مثل حركة «التوباماروس» في أمريكا اللاتينية أو حركة «مصطفى حافظ» في غزة، كانوا مخطئين تماماً، فالحركة العسكرية لها عمقها السياسي والتنظيمي, وليس من السهل إن لم يكن من المستحيل اقتلاعها من التربة الفلسطينية، فالشعب الفلسطيني كان في حالة استعداد سياسي وفكري وتنظيمي لاستقبال الظاهرة الجديدة، والجديد الذي أتى به وهو اعتماد الكفاح المسلح والعنف الثوري «وسيلة وحيدة» لتحرير فلسطين، ألهب مشاعر وعواطف الجماهير، شعب مقتلع من أرضه على هذا النحو المأساوي كان في أمس الحاجة إلى استعادة ثقته بنفسه، وليس من طريق لاستعادة الثقة إلا طريق أبو عمار، إنه الرائد والمبادر لإظهار القوة الفلسطينية التي ظن الجميع والأشقاء قبل الأعداء أنها قد انتهت ولن تقوم لها قائمة، وليس من قبيل الصدفة أنه يعود دائماً وأبداً في أحاديثه إلى أسطورة «طائر الفينيق» الذي احترق وانبعث من رماده، وحين شق هذا الطريق الصعب والذي بدا مستحيلاً كان على مستوى التحدي والمسؤولية فمن جهة فرض الكفاح المسلح على القوى الفلسطينية كلها، وعلى الأطراف العربية والأممية المعنية بالصراع ضد إسرائيل، والتي لم تعد قادرة على البقاء والاستمرار في الساحة الفلسطينية دون اعتماد نهج أبو عمار واستراتيجيته السياسية والعسكرية، فليس لدى هذه القوى ما تقوله للشعب الفلسطيني إذا لم تسر في الطريق الذي شقه أبو عمار وله فيه دور الريادة والسبق وكان يردد: «أنا لا أقول ما قاله قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا» بل أقول «أنا أمامكم فاتبعوني».

الأمر الهام الذي يلفت الانتباه في هذه الثورة أن مفجرها لم يفتح معركة واحدة داخل ساحته، فإخوة السلاح لهم موقعهم في القيادة إلى جانبه، والقوى التقليدية رغم خسارتها للقيادة ومسؤوليتها المباشرة عن ضياع الاستقلالية الفلسطينية وانضوائها تحت رايات أخرى غير الراية الوطنية، لم تكن موضع اتهام أو تشهير، وعلى العكس من ذلك فقد أرسى أبو عمار تقاليد رفيعة للتعامل مع هذه القوى وشخصياتها التي كانت تتحمل مسؤوليات إدارية أو بلدية أو اقتصادية داخل فلسطين أو الأقطار المجاورة، إن هذه الشخصيات تلقى لديه كل الاحترام والتقدير إلى درجة أنه أخذ يكلفها بمسؤوليات مختلفة، ويستخدم نفوذه وعلاقاته لفتح الأسواق أمام الصادرات الفلسطينية من خلالها، وفي مراحل لاحقه أخذ يغري هذه الشخصيات بالاتصال بالإسرائيليين وبالأمريكيين، وقد لعب ما كنا نسميه «بالكمبرادور» دوراً وطنياً مشرفاً في تذليل الصعوبات وتمهيد الطريق لفتح قناة اتصال بينه وبين الأمريكيين، وللإنصاف نقول أن هذه المجموعة من الشخصيات التقليدية مدت له يد المساعدة في العديد من المرات، إنه كان قائداً معترفاً بقيادته وزعامته حتى قبل أن يصبح الرمز الذي لا يجارى، وبالطبع كان له منافسون أقوياء في فتح والساحة، أما فعل العداء السافر والعنيف فقد كان دائماً فعلاً خارجياً، ودون أن نقلل من شأن من عاداه، فإن 90% من حروبه وصداماته كانت مع الخارج وما تبقى صراعات داخلية موحى بها، ولم يكن من شأنها أن تؤثر على مركزه القيادي والشرعي، على رأس الشعب الفلسطيني وثورته ومقاومته، ورغم ضخامة التعددية الفصائلية وتاريخية قيادة فتح، فلم يكن كل هذا النجاح والتوفيق الذي رافق أبو عمار في تبوئه لموقع الرئاسة وليد ظروف أو معطيات خارجة عن إرادته، أو بفعل قوى أخرى، إنه الرجل الذي بنى زعامته بنفسه دون مساعدة من أحد من أصحاب الجاه والسلطان، وعدته في بناء هذا الصرح إقدامه الشخصي واستعداده للمغامرة والمجازفة، وإن كان أبعد ما يكون عن التهور أو الارتجال، وقد نعزو هذه الحالة إلى «الحدس» أو إدراك أعمق لعلاقات الواقع المحيط بفعله المتوقع في زمن أقصر وبصورة أفضل من أنداده، وكان كلما حذر من خطر أو دعا إلى عمل مفاجئ يقول: «طائر الحي لا يشجي»، ولكثرة ما كان يشغله المستقبل، وهذا مرده إلى عدم اطمئنانه إلى الحاضر، فإنه أعطى لنفسه حق القيام بدور «العرّاف»، وقيل الكثير عن هذا المسلك وبأنه كان يسعى لإخراج الحالة الوطنية من مشاكلها وصراعاتها الصغيرة حتى تستشعر الخطر القادم وترتفع إلى مستوى التحدي، الذي يهدد الحالة الوطنية كلها. وفي هذا تفسير لقيادته التي استمرت أربعين عاماً وسط الرمال المتحركة والمستنقعات الآسنة في الشرق الأوسط، كان مسكوناً بقضيته حتى العبادة، فليس لديه ما يشغله كباقي البشر بعد أن خرج إلى العالم مرتدياً الكوفية والعقال والملابس العسكرية الخضراء ومسدسه مشدود إلى وسطه. وقد خدمته هذه الاستعدادات الذاتية المطلقة في البقاء دائماً في حالة استنفار ضد الأخطار التي تتهدده في شخصه وفي مشروعه، ولعل هذه الهالة التي خلقها لشخصه ولقضيته أحاطته بإطار من القدسية والتقديس، جعلت المساس بشخصه على نحو مباشر ومكشوف مسؤولية كبيرة وخطيرة، أكبر من قدرة المتواطئين والمتآمرين على حياته على تحمل نتائجها، وبالطبع وقعت محاولات لاغتياله والتخلص منه في حصار بيروت وهي معروفة ويعترف بها الإسرائيليون، لكنها حرب مفتوحة وليس فيها حدود أو ضوابط، والهدف من ورائها القضاء على الخصم في ظرف دولي قد لا يتكرر مرة أخرى.